بقلم : كمال غبريال
يحدث كثيراً أن يأتي إليّ شخص مبتهجًا بسعادة تكاد تقفز من كل ملامح وجهه، ليبشرني بحدث معجزي، متوقعاً أن أنفجر من الفرح، بمجرد أن يزف لي أنباءه السارة. . ما يحدث بعد ذلك يراه صديقي هذا محبطاً له، وهو أن يجدني أصغي إليه بصمت متفكراً، ولا يخفق جناحي سعادة مثله فأكاد أطير، كما أتخيله هو محلقاً في سماوات السعادة بما سمع، أو بما شاهدت عيناه. . يحدث أيضاً أن يضيق بصمتي، بعد أن يعيد علي تكرار قصته المفرحة، كأنما بتكراره يؤكدها لي ولنفسه، وليستنطقني في نفس الوقت، وقد بدأ الضيق يتسلل إلي ملامح وجهه، من موقفي الذي يبدو له حياديًـا مستهجناً، إزاء أمر لا يحتمل من وجهة نظره الحياد.

يحدث كثيراً أيضًا في مثل تلك الحالات أن أصر على صمتي، وألا أقول له يا أخي أمهلني بعض الوقت، ريثما أتدبر ما قلت، وأقلبه يمينـًا ويساراً في رأسي، لأرى إن كان يصلح لأن أدخله في دائرة إيماني، أم أبقيه معلقـًا خارجها، أم أرفضه رفضًا قاطعًا وباتًا.

فلإيماني دائرة أشبه بعلبة المجوهرات، لا أضع فيها أي متعلقات مهما كانت قيمتها، سوى تلك الجواهر الثمينة الممثلة لما أؤمن به، والتي تخضع لقانون يقول أن "الإيمان هو الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى". . يترتب على هذا القانون أن تكون دائرة الإيمان (أو صندوق المجوهرات) مخصصة لما "لا يرى"، أي غير المحسوس، والذي نستدل عليه ونرتاح له بالقلب والروح، وهو ما يسمى في الفلسفة بالميتافيزيقا، أي ما وراء الطبيعة.

يترتب على هذا أيضاً أن المحسوس، ويشمل كل ما حولنا بالعالم من كائنات وبحار وصخور، هو خارج دائرة الإيمان التي هي حكر على غير المحسوس وحده. . فالعالم المادي الذي نعيش فيه يخضع أو تحتويه دائرة أخرى، هي دائرة العقل. . إذا كان القبول في دائرة الإيمان مناطه الارتياح القلبي والروحي، والذي بموجبه نقبل أو نرفض المسائل الإيمانية الغير محسوسة، فإن القبول للمحسوس في دائرة العقل يخضع للاختبار والتجريب، ونحن نطلق على المنهج الذي يختبر القضايا المحسوسة من حيث الصدق أو البطلان "العلم"، فلا شيء يُقبل في دائرة العلم، ما لم ينجح في خوض التجربة العملية.

قد يبدو الأمر أن هناك تناظراً وتشابهاً بين دائرتي "الإيمان" و"العلم" وهذا صحيح، فالتناظر في اختصاص كل منهما في أمرين مختلفين متناظرين، فأحدهما لغير المحسوس أو ما وراء الطبيعة، والأخرى للمحسوس الطبيعي. . التشابه بينهما أن كل منهما لها شروطها الخاصة، التي تقبل أو ترفض المقولات على أساسها، والشروط في دائرة الإيمان تلجأ للارتياح القلبي والروحي، بينما في دائرة العقل تشترط التجربة العملية لبرهان الصلاحية.

لكن هناك فارقاً جوهرياً بين الدائرتين، فدائرة الإيمان في الأغلب مغلقة أو شبه مغلقة. . فما يستقر فيها من إيمانيات، سواء بفعل التربية منذ الطفولة ويستمر ويتعمق فيما بعد، وما قد يستجد أيضًا عند بلوغ الإنسان اكتمال النضج الشخصي، يبقى في الأغلب مستمراً مع الإنسان طوال حياته، ونادراً ما يحدث فيه تبديل أو تعديل جذري، ما لم يتعرض الإنسان لصدمات روحية قوية، قد تنقله إيمانيًا من حالة إلى حالة، مثل تلك التي حدثت لشاول الطرسوسي، فتحول إلى بولس الرسول.

أما دائرة العلم، فرغم الشروط الصارمة للدخول فيها، والتي تقتضي الخضوع لتجارب منهجية عديدة، للتأكد من سلامة النظرية أو القضية محل النظر، وصلاحيتها للتوصيف الكامل للواقع المادي، وتطابقها مع مختلف حالاته العملية، إلا أن دائرة العلم تبقى دائرة مفتوحة، فالقاعدة التي تحكم العلم هو أنه "قابل للتكذيب"، هذه القابلة للتكذيب سلاح ذو حدين، فهي تمنحنا يقيناً علمياً بصحة ما نتناوله من قضايا ونظريات، ما دامت محاولات تكذيبها قد فشلت، لكنها في نفس الوقت تُبقي ما أدرجناه وصدقنا عليه كنظريات صحيحة معرضاً دوماً للتكذيب، بنظريات أخرى يأتي بها المستقبل والعلماء، مدعمين بتجارب أخرى تثبت مصداقية نظرياتهم الجديدة، وتدلل في نفس الوقت على فساد أو زيف النظريات القديمة، وهكذا دواليك.

هكذا يبدو الأمر وكأن الحدود والفروق واضحة بلا لبس بين كل من دائرتي "الإيمان" و"العلم"، ولا مجال لخلط أو تعارض بينهما. . لكن الأمر حقيقة ليس على هذا النحو، فلأن الإنسان كائن مادي بالأساس، وما نعرفه بالروح والوجدان يعمل من خلال الجسد المادي للإنسان، علاوة على أن تصورات العقل الإيمانية، أي ما وراء الطبيعية لابد وأن تتأثر بالصور المادية، فتعبر مخيلة الإنسان عن الروحيات بالماديات، تستعين بها على تصور واستيعاب "ما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر"، فإننا نكون هنا بإزاء تشابك وتداخل حتمي بين دائرتي الإيمان والعقل. . الأمر عند هذا الحد محتمل ومقبول بنوع ما، مادام محدوداً بدرجة التداخل المتوقعة، والتي لا تغير من طبيعة كل من الدائرتين ومجال عملهما، بحيث تظل دائرة الإيمان في عالم الماورائيات، ودائر العلم مختصة بالعالم الطبيعي وعلاقاته، والتي يقف الإنسان في المركز منها.

يحدث التداخل الخطير في الاختصاصات، ما قد يصل أحياناً إلى حد انقلاب الوضع، حين يحاول الإنسان التوسع بدائرة من الدائرتين، لتطغى على المساحة التي تختص بها دائرة أخرى، كأن نحاول مد الرؤى الإيمانية الروحية، لنتصور هيمنتها على العالم المادي، ونبدأ في التخلي عن استخدام القوانين الطبيعية للتحكم في عالمنا الأرضي، متوسلين معجزات خارقة لهذه القوانين، لنقفز على ظهرها، علنا نصل مباشرة دون الحاجة إلى جهد أو علم إلى غاياتنا المادية.

كما يحدث أيضًا من مفكرين وفلاسفة، أن يتصوروا أن للعقل قدرة على فحص وتحقيق الماورائيات، فيخوضون غمار بحوث مسلحين بآليات العقل، المنقطعة الصلة بعالم الروح، المفارق للعالم المشتقة منه تلك الآليات التحليلية أو المنطقية، وقد يخرج علينا هؤلاء بإثبات لمقولات روحية، وقد يخرجون بنفي كلي أو جزئي لعالم الروح، وهم في الحالتين قد ضلوا وأضلوا.

عندما تتداخل الدوائر لابد وأن تتصادم، وهذا ما هو حادث الآن، من دعوات في الشرق لعودة الدولة الدينية المحكومة بشريعة سماوية، وما يحدث في الغرب وبعض الشرق من تيارات إلحاد وإنكار لكل ما هو روحي، والحل الذي لا حل سواه، هو أن "نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، والمعني هنا أن نلتزم في دائرة الإيمان بعالم ما وراء الطبيعة، وفي العالم المادي نلتزم بالعلم، فهو وحدة القادر على مساعدتنا على تحقيق ما ننشده من رفاهية، وإلى أن يتم هذا الفصل القاطع، سنظل نضرب في أوحال تخلفنا.

مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com