بقلم: شفيق بطرس
تذكرت في منتصف السبعينيات حيث أعطى الرئيس السادات الإشارة الخضراء لقيام أحزاب سياسية مختلفة في مصر، وبدأت تتشكل الأطياف والتكوينات السياسية المختلفة وتظهر على الساحة السياسية بعد أن أخفاها الحزب الواحد، كنت وقتها في زيارة للصعيد وما أن تخطو قدماي البلد إلا ويعرف كل أصحابي وأصدقائي القدامى أنني وصلت للبلد، وكما تعودنا يجب أن نلتقي في منزل أي منّا وكانت بصفة مستديمة مندرة صديقي محمد جمال وذلك لأنها كانت متسعة جداً وكما أن بيتهم يتوسط البلد وقريب لكل بيوت الأصدقاء منذ الصغر.
أذكر وقتها كنا قد أختلفنا سياسياً واحتد هو بالكلام ولم أتحمل أنا الإهانة وتركت الجلسة وخرجت غاضباً، وكان حسب أصول الصعايدة يجب أن يخرج يتتبعني ويلاحقني ويعتذر أو على الأقل أن يأخذ بخاطري لأنني قد غضبت في قلب بيته وخرجت غاضباً، لم يفعل ذلك صديقي محمد جمال وتركني أخرج من منزلهم غاضباً وزاد همومي أنه لم يتبعني ولا أن يفعل ما قد اعتدنا أن نفعله من واجب ككل الصعايدة.
بعدها بيوم كان سبت لعازر الذي يسبق أحد السعف أو أحد الشعانين وقد مررت على أحد الباعة الذي وضع بضاعته بجوار منزل صديقي هذا، وكان البائع يصيح وينادي على بضاعته (قلبك يا مسيحي) ليجذب زبائنه المسيحيون ويسترزق، في نفس اللحظة التي كنت أختار فيها قلوب السعف كان محمد جمال يهم بفتح باب منزلهم الضخم وقد مر من خلفي وتجنبني تماماً، نظرت نحوه وتركت قلوب السعف التي اخترتها وقلت له: طب يا أخي قول كل سنة وانتم طيبين خلاص قلبك اتملى بالسواد للدرجه دي، واتجهت نحوه فاتحاً ذراعاي وترك هو مفاتيحه وبوابة منزلهم وفتح ذراعيه متجهاً نحوي وقال يبقى الراجل ده ليه حق يا شفيق!!
من الفجر وضع بضاعته تحت بيتنا وهو يصيح ووجع دماغنا.. قلبك يا مسيحي.. قلبك يا مسيحي.. وسألته عن السبب فقال أن السعف أبيض من الداخل وجديد زى قلب المسيحي دائماً، فالنقاء يجدده ويجعله أبيض لا يحتمل قاذورات ولا يشيل أحقاد تسوده وتجعله يغير من بياضه ونقائه، وفعلاً قد صدقته يا صديقي وحقك عليّ، وأعتذر وقال بعد رجوعكم من الكنيسة الليلة سأجمع نفس الشلة من الأصدقاء وأعتذر أمامهم جميعاً لك عما بدر مني، قلت له لا داعي ولا أريدك أن تعتذر أمام الجميع يكفي أنك صفيت من ناحيتي والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، صمم أن نأخذ الشاي معاً ليطمئن أنني سامحته فعلاً لكني أعتذرت لأنني كنت من فريق المضفرين للسعف وأتقن تضفيره وصنع أشكال منه وقلوب وأحصنة وخلافه من التكوينات التي كنا نتقنها في عشية أحد السعف.
تناقشنا على باب منزل صديقي الفيلسوف السياسي الداهية هذا مناقشة سريعة ما زلت أذكرها، قال يا ترى ما سبب وجود هذه القلوب البيضاء عندكم يا نصارى؟ أنا متأكد من ذلك الآن بعدما أكدت لي بنفسك هذه المقولة بتسامحك لي بالرغم أننى كنت أنا الغلطان والذي زاد من خطأي خطأ آخر بعدم تتبعك وملاحقتك لخارج المنزل وإرجاعك وتقديم الإعتذار لك، لكننى تركتك تخرج غاضباً وقد عاتبني كل الأصدقاء الموجودين بالمندره وأشعروني بعظم ذنبي في حقك، لكنك نسيت وبدأت معى الكلام وأتجهت نحوى وكأن شيئاً لم يكن.
والسؤال ما سبب بياض ونقاء قلوبكم؟
ترى هل هي تعاليم دينكم؟
هل هو طبع وأسلوب حياة قد اعتدتم عليه كمسيحيين؟
هل لأنكم مررتم بمراحل تاريخية قاسية من أيام الاضطهاد الروماني وما كان لديكم أي حيلة في مواجهة المضطهد إلا التسامح والصفح لأنكم الأضعف؟
هل قد تعودتم بعدما جاء العرب ونشروا الإسلام على أن تظهروا تسامحكم معهم لأنكم قِلة مستضعفة وهم الأكثرية والمتحكمة في شئون البلاد؟
أم صفة وراثية قد تميزتم بها عن سائر المصريين؟
ضحكت من كل قلبى وأخذته في حضني لأنه كان صغير الجسم قصيراً نحيفاً وأنا أضخم منه وأطول مع أنه في نفس سني وقلت له ممكن أن تقول كل هذه الأشياء مشتملة على بعضها يا فيلسوف الصعيد قد جعلتنا هكذا، والمهم والأهم أنك تتعلم من صديقك كيف يكون لك القلب الأبيض.
وكما يزعق صاحبنا البياع على بضاعته من السعف ويصرخ.. (قلبك يا مسيحي) أتساءل هذه الأيام بعد كل ما أقرأه من تعليقات بيننا كمسيحيين ومن اختلافات بين نشطاء أقباط المهجر وأقباط الداخل بينهم ما بين البعض وكل ما يحدث هذه الأيام من تحركات لا تنم إلا عن الغضب والكراهية والضغينة، هل ما زال قلب القبطي المسيحي في بياض ونقاء قلب السعف؟
هل سيكون البياع على حق حين ينادي على بضاعته ويقول.... (قلبك يا مسيحي)؟
تساؤلات أطرحها ولا أجد عليها إجابات...
مش كده ولا إييييه...