بقلم: سامي ابراهيم
عندما لا يستطيع شعب أن يوفّق بين عناصر الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، فهذا معناه أن هذا الشعب لم ينضج بعد. هذه هي الحقيقة المرّة التي يسد الإنسان أذنيه بأقصى ما يستطيع من قوة لكي لا يسمعها.
الشعب الكلداني السرياني الآشوري شعب مجزأ مفكك يعيش صراعات على جميع الأصعدة.
شعب عانى محنًا وأزمات، وقد خرج من معظمها حيًا لكنه لم يخرج سليمًا، خرج أبناؤه وهم يعانون آثار التهشيم والتشويه، صراعات مذهبية عقائدية استنزفت جهده وعقله، فبدلاً من أن يقوم هذا الشعب بتركيز طاقاته على أمور النهوض من جديد، وهو الشعب الذي بنى أولى لبنات الحضارة راح يشتت طاقاته ويتصارع مع بعضه البعض على خلافات لاهوتية لا تقدم ولا تؤخر، الأمر الذي جعله طوائف عديدة، وأدخله في خلافات لا غاية منها سوى تكريس الشقاق أكثر وتوطيد سلطة بطريرك هنا ومطران هناك.
صحيح أن الأجيال الحديثة تجاوزت هذه الخلافات ولو بشكل جزئي وهو مؤشر إيجابي على المضي قدمًا نحوى إزالة العوائق باتجاه العمل القومي، لكنه خلق مشكلة أبدية، لقد كان هذا الخلاف المذهبي انعطافا محوريًا في تمزيق جسد هذه الأمة وتفتيتها إلى أجزاء.
أما خارجيًا فإن المحن التي عصفت بهذا الشعب من مجازر وقتل وتنكيل وتهجير قد زاد من تصدع كيانه، لقد اتحدت العواصف الداخلية والخارجية لتقف في وجهه، وتزيده جراحًا. ولم تشأ هذه العواصف أن توقف نموه القومي في وضعه البدائي فحسب، بل دفنته حيًّا في قبر محكم.
لقد أصبح هينًا على الإنسان من أبناء شعبنا أن يأخذ بأي مبدأ يتنافى والوجود القومي، وكأنه يشعر أنه ابن لغير أمة. ولا شك أن هذا التنازل عن الوجود القومي، يمثل خطرًا كبيرًا على مستقبل الأمة الأشورية بمختلف تسميات شعبها.
التغير الحضاري الذي يمر به الأشوريون في العراق، من تفريغ ديمغرافي وما نتج عنه من تحوير فى النسيج الاجتماعي لبلاد الرافدين، والتركيز على إقصاء من تبقى من هذا الشعب في المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية، كل هذه التيارات العارمة، أضعفت العقل الآشوري وجعلته قاصرًا متخبطًا حائرًا وتائهًا. هذا التغيير الحضاري في أرض الرافدين قد ألغى الوجود القومي الآشوري من جذوره.
كما أن التعصب لأبناء المذهب الواحد أصبح كبركان نشط مستعد للانفجار في أي لحظة، إذ نرى الآن تعصب بعض من أبناء شعبنا الكلداني للطائفة الكلدانية قد بلغ أوجه، فهم يجمعون ويحشدون أبناء الطائفة خلفهم في سابقة لا مثيل لها، لقد نسوا كل رابط قومي وأصبح انتماؤهم الكلداني كاثوليكيًا قبل أي شيء آخر.كما أن تعصب بعض من أبناء شعبنا السرياني والذي ينفي كل ما له علاقة بالأمة الآشورية مستخدمًا النظرية الآرامية لقطع جذوره عن هذه الأمة وكأن الآراميين ليسوا أحد أركان هذه الأمة، فترى المتمسك بأمته الآرامية المقدسة معتبرًا الآشوريين ألد أعدائه.
وأيضًا تعصب بعض من أبناء شعبنا من الطائفة المشرقية الآشورية ونبذهم وإصائهم لأبناء المذاهب الأخرى، ولاغيًا الطوائف الأخرى معتبرهم مجرد أقوام في إمبراطوريته وكأنهم الآشوريون الوحيدين في العالم، ما خلق ردة فعل في أبناء الطوائف الأخرى ساهم في فتور الشعور القومي.
فبعد أن كان كل طرف يقدم دلائل وإثباتات على أننا شعب واحد، أصبح الآن وبشكل غير معهود كل طرف يثبت بنظريات يخترعها أو هو يقتنع بها مجرد قناعة شخصية أن طوائف شعبنا هي قوميات مختلفة ومنفصلة ولها خصوصيات ومقدسات لا أحد يجب الاقتراب منها.
هؤلاء الذين بدأنا نشهد مدّهم الفكري يطغى بعد أن كان خاملاً طيلة القرن الماضي، هؤلاء هم من يزيدون من فرقة الشعب الكلداني السرياني الآشوري، هؤلاء لا يحلون المشكلة، بل يزيدونها تعقيدًا، هؤلاء يزيدون من جراح هذا الشعب، هؤلاء هم من يهدمون جميع ما بناه رواد الفكر والوعي القومي المتطور والحديث ابتداءً من أوائل القرن الماضي.
فأن تقول لهذا المتمسك بالنظرية الآرامية إن كلمة سريان هي مشتقة من أشوريا، وأن الشعب السرياني هو نفسه الشعب الآشوري فإنه سيقيم الدنيا ولن يقعدها وتكون قد جدّفت وكفرت، وأن تقول للكلداني إن كلمة "كلدا" وتعني المنجم هي كلمة آشورية أطلقت على علماء الفلك من أبناء شعبنا، فإنك تكون قد حرفت التاريخ وجاهلاً بعلم الحضارات. كل شخص يظن أنه على صواب وأن الآخرين مخطئون
.
كما أن ردة الفعل المسيحية ضد المد الإسلامي السلفي قد قوّت الحركات الدينية المسيحية الإنجيلية بين أبناء الشعب الكلداني السرياني الآشوري وأضعفت أكثر فأكثر الشعور القومي الآشوري وشعور الأمة الواحدة.
والمشكلة الأخرى التي تلي مشكلة المذاهب هي مشكلة التراث القومي، أي المحافظة عليه والعمل على تعزيزه، لأنه من الطبيعي بعد عهود الصراع والطمس لهويتنا، أن نفقد الكثير من خصائص أمتنا ومزاياها. لقد أضعنا لغتنا السريانية، فلا يوجد خطة جدية لإنقاذ اللغة السريانية التي بدأت بالانحدار إلى أدنى المستويات وأصبحت عرضة للاندثار. لا يوجد معاهد تعليم اللغة السريانية.
بنى الشعب الكلداني السرياني الآشوري أول حضارة لكنه الآن خارج الحضارة وخارج الزمن وخارج التاريخ، فأين الحاضر الذي يجب أن نعيش به وماذا فعلنا بهذا الواقع، أين نحن من الشعوب التي ما تزال تقدم للحضارة وليس فقط قدمت منذ 6760 عام وجلس أبناؤها بعدها يتصارعون. ليس لدينا حاضر ولا مستقبل. ليس لدينا كيان، وليس لدينا شعور الانتماء.
فأين هي جامعاتنا التي هي صرح حضاري أفضل من ألف قصر وألف معبد؟
كم جامعة كلدانية سريانية آشورية موجودة في العالم؟
ماذا تفعل جالياتنا في المهجر؟ كم جمعية ثقافية وفكرية أسسوا هناك؟ وكم كتابًا ألفوا؟ وكم مجلة حرروا تكتب باسم شعبنا؟ وكم جريدة سطروا؟
كم طالب جامعي فقير يدرس على حساب أثرياء أوروبا وأمريكا من أبناء شعبنا؟
لا بل كم طالب جامعي من أبناء شعبنا هناك يدرس الهندسة والطب والحقوق والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس؟
كم عضو في البرلمانات الغربية لدينا؟
لماذا الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا هناك يعملون كخدام وعبيد؟ والذي يصبح لديه حفنة من المال طموحه سيكون أن يملك محل فلافل وإذا وفقه الله واستطاع أن يهرب من الضرائب سيطور محله ليكون مطعم بيتزا ليعمل أولاده لديه بدلاً من أن يعملوا لدى الغير! دون أن يفكر ولو للحظة واحدة أن يدخل ابنه الجامعة ويصرف عليه.
فأي ضعف حضاري نحن به. وما فائدة ماضي عريق وتاريخ انقضى منذ 6760 سنة إذا لم نستطع أن نبني حاضرنا. وأي مستقبل أسود ينتظر أبناء هذه الأمة الشقية التعيسة.
خمسة طلاب سويديون اخترعوا نظام التشغيل لينكس Linux لينافس نظام الويندوز للشركة العملاقة ميكروسوفت، بينما 300 ألف شخص كلداني سرياني آشوري في السويد مرفهون، ضمان اجتماعي وتأمين صحي، 300 ألف شخص كلداني سرياني أشوري ومن يدرس منهم في جامعات السويد لا يتجاوز أصابع اليد!!. 300 ألف كلداني سرياني أشوري في السويد لم يبنوا ولم يؤسسوا جمعية ثقافية واحدة لكنهم بنوا عشرات أندية القمار ومئات المطاعم!
تخيلوا بالمقابل لو كان هناك 300 ألف ياباني موجودين في السويد! تخيلوا 300 ألف كوري موجودين في السويد!
الأطباء الهنود في امريكا هم من أقوى الأطباء في العالم وعددهم يقدر بالآلاف، ومثلهم الصينيون فهم متواجدون في اغلب مخابر الكيمياء والفيزياء في أمريكا.
في ألمانيا بمعدل كل سنة وستة أشهر هناك إنسان ألماني يغير وجه البشرية في منحى معين من مناحي الحياة بنيله لجائزة نوبل، في بريطانيا كل خمسة سنوات هناك مثل هكذا إنسان وفي فرنسا معدل تغيير الحضارة البشرية عشر سنوات.
أما أمريكا فإنها تسبق أوروبا تكنولوجيا بـ مائتي عام، أي أن أمريكا متطورة بمائتي سنة على أوروبا بجميع المجالات. ومعدل كل ستة أشهر هناك أمريكي ينال جائزة نوبل. فأين نحن من هؤلاء بناة الحضارة الحقيقين؟
أين أطباؤنا في مشافي الغرب وما هي منجزاتهم؟
أين مهندسونا وماذا بنوا؟
أين فلاسفتنا وأين النظريات؟
أين هم علماء المخابر؟
أين أساتذة الجامعات من أبناء شعبنا؟
ألا يجسد هذا التقصير ضعفا حضاريًا بحد ذاته؟
شعب تاه في دوامات الزمن، شعب لا يعرف ماذا يريد، شعب قضت عليه العواصف والمحن، حتى لو لم تفنه وجوديًا لكنها أفنته فكريًا. شعب فقد تحفيزه الذاتي بأن يكون لديه شيء يستيقظ من أجله كل صباح. لم يعد هناك شيء يجيده في الحياة.
لكن هل هذا معناه أن نيأس؟ أبدًا لا، لأن الاستسلام ليس حلاً.
ففي كل طفل يولد هناك أمل في الحياة من جديد، في كل طفل يولد هناك فرصة تغيير جديدة، في كل طفل يولد هناك أمل وفرصة إبداع حضاري جديدة. في كل طفل يولد هناك فرصة لأن نشرق من جديد.
الحضارة البشرية بحر عظيم، وليست قطارًا سريعًا يمر ولن نستطيع لحاقه. الحضارة البشرية بحر يفتح يديه لكل من يريد أن يصطاد.
الأمة الألمانية خرجت من حربين أمة ممزقة، محطمة ومقسمة كغنيمة دسمة بين الدول التي انتصرت عليها، والضربات التي تلقتها لا يمكن لأمة إلا بمئات السنين أن تنهض من جديد، لكنها نهضت، وفي خمس سنين أصبح اقتصادها أقوى اقتصاد في العالم، سابقة للدول التي انتصرت عليها. وهي الآن تنهج نهج أمريكا في استقطاب العقول واستقطاب الدراسات الجامعية من جميع دول العالم.
ولكي يستطيع شعبنا الكلداني السرياني الآشوري أن ينهض وأن يعيد منجزات ماضيه العريق ويضمن حاضره ويصنع مستقبلا مشرقا، فإنه يتوجب عليه أن يترك نزاعاته التي تشل تفكيره وتأخذ حيزًا كبيرًا من مجهوده العقلي، وأن يبدأ حياة جديدة يقاوم بها التحديات التي تعترض مسيرة نهوضه، عليه أن يبني تفكيره على مستوى عالٍ من العلم والوعي، عليه أن يتوقف عن النحيب والبكاء على أمجاد ماضيه ويبدأ بصنع حاضره والتخطيط لمستقبله، عليه أن يؤمن أن الأمس لا يهم بل ما يهم هو ما يفعله الآن، عليه أن يؤمن أن الماضي يختلف عن المستقبل، عليه أن يعيد برمجته من جديد، وأن يغير من نظام التشغيل الذي يتوارثه، عليه معارضة تفكيره القديم، عليه أن ينظر للأمور بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التي ينظر إليها الآن. عليه أن يبدأ بتغيير قناعاته المغروسة فيه منذ أن بدأ يتنفس الهواء على سطح الأرض. عليه أن يستفيد من تجارب الماضي وأحزانه وآلامه، عليه أن ينتصر لذاته من جديد، عساه يعود لموقعه الرائد، ويكون بانيًا ومقدمًا للحضارة من جديد.