بقلم :- نادين البدير |
كثيرون يكتبون.. أسهل شىء أن تكتب ثم تترك الحبر يجف على صفحات الكتب. قليلون يتركون الأثر.. أصعب فعل فى الكتابة أن تخزن ما كتبت على صفحات الذاكرة البشرية. يقرأ الناس كلمة أو جملة، يحاولون التفكير بها، يشرد ذهنهم فوراً. ينسونها وقد يقرأون أخرى، فيقفون عندها ويقلبونها، يراجعونها مرات ومرات، تحفظها ذاكرتهم كأنها صارت واحدة من بديهيات ما يحفظونه، كأسمائهم تماماً. مات محمود السعدنى.. لكنه ترك إرثاً محفوظاً بدواخلنا لا على أرفف المكتبات فقط، صارت فلسفته فى الحياة ضمن مخزوننا الثقافى. قرر أن يكون مختلفاً منذ البداية، مثقف ساخر بعمق، وبارع بغرابة، كان يحول الأحزان إلى نكات تضحكه أكثر مما تضحكه الأفراح، ميزة عجيبة ونادرة خلقتها مصر، سخرية من المحن، وابتسامة هازئة من جلاد اسمه الأيام.. «ولو أنى عدت للحياة من جديد لاخترت هذه الحياة ولتمسكت بأحزانها قبل أفراحها» مات السعدنى.. فهل اكتفينا باثنى وثمانين عاماً؟ أيام الدراسة أهدانى صديق قصة، أخبرنى أنها لكاتب مصرى شهير اسمه محمود السعدنى، وأقسم أنى لن أتوقف عن الضحك معها وعن الاندهاش منها، وقد طلب منى أن أعيد له قصته فور إنهائها. بدأت بقراءة «مذكرات الولد الشقى» وسرحت معها. سرحت كثيراً فى الرواية لدرجة أنى تمنيت لو كنت أنتمى للمنوفية، ولو أنى عشت فى حارة بالجيزة، ولو أنى لعبت مع أولاد أم صفيح ودرست بكتاب الشيخ عبدالعال، ولو استمعت لأعظم الروايات العالمية من عبده المكوجى حول الوابور بدل قراءتى المرفهة لها من على مكتبى. اشتهيت حياة الصياعة والضياعة والتعاسة التى عاشها. وتمنيت وأتمنى إلى اللحظة لو أنى أتمكن من فهم الدنيا واتخاذها نكتة كما فهمها السعدنى بدل الزعل منها وأخذها على محمل الجد كما أفعل أنا. ذلك طبيعى، فلست فنانة كما السعدنى. كان فناناً ومثقفاً.. صفتان قلما تجتمعان. «وخسرت أشياء بسبب رعونتى وكسبت أشياء أخرى بسبب وضوح موقفى وذقت كل أنواع الحياة، وعشت أياماً طويلة فى هيلتون مدريد بإسبانيا.. وأنفقت مائة جنيه فى ليلة، وقضيت عدة أيام أبحث عن قرش صاغ.. وقابلت عدداً كبيراً من الملوك ورؤساء الجمهوريات، وصادقت عساكر بوليس وعمال بناء ومكوجية. وطفت بأكثر بلدان أوروبا، نمت على شاطئ بحيرة جنيف.. لكن لايزال أجمل مكان أحن إليه هو قريتى فى المنوفية وشارع البحر فى الجيزة وضفاف بحيرة التمساح فى منطقة القناة»، صار السعدنى أحد محاور اهتمامنا أنا وصديقى، أهدانى بعدها كتباً أخرى له، طبعاً لم أرجع ولا واحدة، وقمت أجمع مؤلفاته أينما ذهبت، وأحكى لوليد عنها، حاولنا تفكيك أفكاره، ضحكنا كثيراً على مقالبه ومواقفه وطريقة سرده العفوية الساخرة لجزء من تاريخ مصر وللأنظمة والحكام، ولم أعد أرى وليد، فقد فرقتنا الأيام منذ سنوات الدراسة، وكم أرغب لو أقابله أو تمر عليه مقالتى فأعزيه فى وفاة كاتبنا المحبوب الذى عرّفنى عليه. وعلى قدر ما قرأت عن بريطانيا وتاريخ بريطانيا والأدب الإنجليزى، فإن أول منظار رأيت به لندن حين وصلتها للمرة الأولى قبل عدة سنوات هو منظار السعدنى.. هكذا ترسخت فى الذهن كلمات فنان الكلمة. رحت أتمشى فى شوارعها. قادتنى الطرقات لميدان شبهه «الموكوس فى بلاد الفلوس» بالعتبة قبل الحرب، عنده زحمة عرب وهنود وسياح مختلفى الأجناس، وقفت عن يمين ميدان بيكاديللى ثم يساره.. أين كان يقف محمود؟ هنا، أو ربما هناك، سأتخيل أن الرجل كان هنا وهو يخلع بالطو المطر وبالطو الصوف والبلوفر أبوأكمام والبلوفر أبونص كم والجاكتة والقميص، حتى إذا ما فرح بذلك التحرر التمت عليه الجموع تظنه حاوياً هندياً جاء ليعرض ألعابه... «وفى لندن البنت آخر حلاوة وآخر طلاوة ولكن آخر استرجال. تنام فى غابة كلها رجال ولكن ولا راجل يستطيع أن يلمس.. مادامت البنت لا تريد الهراش والفراش..والست فى لندن لابسة ميكروجيب وكل شىء ظاهر وباين وعلى عينك يا تاجر، ولكنها تصنع ما تريد وليس ما تجبر عليه. لا الفلوس تغرها ولا الكلام المعسول يجرها ولا الأمانى والأغانى تدير رأسها على الإطلاق». «إنهن فى الطريق كعساكر الرديف، خطوة منظمة، لا قصعة ولا لفتة ولا هئ هئ.. ولا لبانة مدلدلة ولا أحمر مسخسخ كأحمر البطيخ» (هكذا عرض رأيه بكل شىء وبأمتع الأساليب الوصفية)». وفى النهاية «أرجو ألا أموت قبل سن التسعين لكى أعيش على هذه الأرض أطول فترة ممكنة.. ولكى أتعرف إلى أكبر عدد من الناس ولكى أقرأ أكبر عدد من الكتب ولكى أموت وليس لى فى الحياة مطمع جديد».. أريد أن أموت مع الأحياء لكى أظل معهم أتفرج على الأجيال الجديدة السعيدة التى ستملأ الحياة فناً وورداً ورقصاً وموسيقى «رحلت يا محمود.. فهل اكتفينا نحن باثنى وثمانين عاماً من إنسان قضى عمره وهو يجسد أجمل الأجيال؟». أصعب شىء فى الحياة أن تخسر الرفقاء والأساتذة الحقيقيين الذين اختاروك دون أن تختارهم، أناس لم يعرفوك لكنهم ساهموا فى تكوينك وقولبة شخصيتك، بدأوا معك منذ الصغر، لم يعرفوك لكنهم وصلوا إليك قبل أن تكبر وتختلط بعالم المفكرين والمثقفين الكبار وأسماء لم تسمع بها من قبل. وسر السعدنى أنه لم يؤمن بالفوارق، كتب عن السمكرى وعن البوهيجى مثلما كتب عن الوزير وعن الرئيس، نزل للبسطاء وللعامة وكتب لهم ومن أجلهم.. كلمات بسيطة ذكية عميقة فى مدلولاتها، فكان أن وصل للجميع، فيما البعض يظن التعقيد برهان نبوغ، يستدر الأدب، يتحملق حول الكبار علَّه يحتمى بمعرفتهم ويستقى من عظمتهم. ذاك اليوم فاجأنى رحيلك.. أدهشنى أن أعرف خبر الوفاة من الفضائيات، مثل غيرى من المشاهدين أستمع لخبر الوفاة! رغم أنى أكن لك ذكريات ومشاعر تختلف عنهم أجمعين. قالوا إنك كنت مريضاً مرهقاً فى النهايات، لكنى أعلم أنك حلمت بالطريقة وبالنهاية.. رحلت يا فنان الكلمة، وروحك تسكن هنا وهناك وفى كل مكان، وألحان كلماتك الأبدية باقية مع الخلود، أردت أن أقول إننا سنشتاق إليك كثيراً. |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |