أعتبر ذاتي من عشاق الراديو.
أمي لم تعترض يومًا على شيء يخصنى،وقد كانت امرأة مستقلة.
أمى كانت تقول لى "نفسي يا عطيات والنبي أشوف عندك فيلا وعربية"
طوال عمرى أسعى لإقتناء عقل جميل وحميت ذاتي بالفكر وليس بالحجاب.
وراء كل رجل عظيم امرأة عبارة متخلفة.
عمري ماحسيت إنى مظلومة.
توَّقفنا في الحلقة الماضية عند مدى تنوع الثقافات والقراءات عند عطيات الأبنودي، واليوم نستكمل هذا الحوار، فماذا قالت؟
*أجرى الحوار : هند مختار - خاص الاقباط متحدون
هل كانت توجد مكتبة عامة بمدرستك؟
كانت توجد بالمدرسة مكتبة، وكان هناك مدرسًا للّغة العربية "الأستاذ متولي"، وكنت متفوقة في هذه المادة، وكنت أعشق سماع إذاعة البرنامج الثاني في بدايته، فطيلة حياتي وأنا أحب سماع الراديو، وأحببت التمثيل في الإذاعة، ومرة كتبتُ خطابًا "لبابا شارو" حتى يدعوني لكي أُمثِّل في الإذاعة، وكنت أراسل صحفيين بالقاهرة، وطبعًا هذا كله قبل مجيئي للقاهرة.
كان هناك اثنان من الكُتَّاب أحبهم جدًا: (أحمد بهاء الدين ومحمد زكي عبد القادر)، وكنت دائمًا أستعير الجريدة وأقرأ لهما، وكتبت لهما وأنا متأكدة من أني لو بحثت في أوراقي فسوف أجد جوابًا من أحمد بهاء الدين يرد فيه عليّ، وكنت قد كتبت له وطلبت منه أن يرد بنفسه على خطابي، لا سكرتيرته، وبعث لي بخطابٍ بخط يده، كل هذا وأنا في الخامسة عشر من عُمري قبل مجيئي للقاهرة، وكنت أسمعهما في البرنامج الثاني؛ أي جيل الستينات وما قبله بقليل، في أول حضور لي بالجامعة بحثت عن جمعية الصحافة والتمثيل، وقابلت الصحفي المشهور "مصطفى الحسيني"، كان أيامها طالبًا بالكُليَّة، وقال أن الجميع ابتعد عنه لأنه شيوعي، ولم تكن لي علاقة أيامها بالشيوعية أو غيرها، وكان هو رئيس مجلة الحائط فعملت معه، وفي هذه السنة رسبت، وهذا لم يكن لأني "غبية" أو لأني لم أستوعب دروس القانون، لكن لأنه لم يكن لدي نقود لأشتري الكتب.
أذكر جيدًا أن والدي ليلة امتحان القانون المدني، جاء معي إلى منزل طالب يسكن بجوارنا لأستعير منه كتابًا لكي أذاكر فيه، هذا بالإضافة إلى أنني كنت أقرأ كثيرًا وأشاهد سينما ومسرح وأسمع موسيقى هذه المرحلة؛ (والتي أسميها: مرحلة الصياعة الكبرى)، هذا إلى جانب تركي شقة أخي بسبب معاملة زوجته السيئة لي ،وبكيت لأمي وأخبرتها بما حدث فما كان منها إلا أن حضرت إلى القاهرة يصطحبها أبي وإخوتي كريمة وسعيد، وأقمنا بمنطقة الجيوشي بحي السيدة زينب، فأمي تعرف معالم القاهرة جيدًا، ولها أصدقاء فيها منذ أول تواجد لها بها قبل أن نتركها عائدين إلى السنبلاوين.
وكان أبي يمارس عمله في أي مكان كبائع أقمشة، وبالفعل انتقلت مع أمي وأخوتي للقاهرة بعد سنة أولى جامعة، وسكنا في الجيوشي في السيدة زينب في غرفتين بحمام مشترك، وكان يجب عليّ في تلك الفترة أن أعمل ووجدت عملاً في مصلحة السكك الحديدية عاملة في قسم الحسابات على ماكينة التخريم، وهذا بالطبع قبل اكتشاف الكمبيوتر، وقد عملت بالإعدادية لأن سني أقل من 18 سنة على الرغم من حصولي على التوجيهية، وكان مرتبي 8 جنيهات، وكانت هذه ال 8 جنيهات هي المصدر الرسمي الممول للمنزل، وكنت آخذ منهم قرشين صاغ للتروماي وأحيانًا بقية الشلن حتى أشرب كوب شاي في العمل، وصممت أن أكمل تعليمي، طبعًا كنت آخذ السنة في سنتين، لكني عُمري ما حسيت إني مظلومة أو إن هذا الموضوع يُسبب لي أي ألم، ..بالعكس كان نفسي أكون مشاركة في الحياة السياسية، فرشحت نفسي في الإتحاد الاشتراكي عن السيدة زينب وكان معي "يوسف إدريس" رحمه الله.
**كان لك علاقة بالمسرح ما هي ؟
علاقتي بالمسرح علاقة عميقة جدًا، فالمسرح علمني الـ (dramatization) في أفلامي بعد ذلك، أنا كنت أقرأ المسرحيات العالمية والكتب كانت رخيصة في متناول مصروف اليد، فالمسرحيات العالمية التي تصدرها الهيئة عندي، منها مكتبة، وبعد ال 8 جنيه مرتب مصلحة السكة الحديد كان يجب أن أحسِّن دخلي، فأنا كنت في فرقة التمثيل في الجامعة، وأحصل على جوائز؛ فمثلاً أنا مثلت دور الفتاة الصغيرة في مسرحية "إبسن" (البطة البرية)، وكان معي وقتها "فايزة واصف" مذيعة التليفزيون فيما بعد، والصحفي "جمال حمدي" رحمه الله، حيث كان يُمثِّل دور الجد، فالمسرح بدأ من المدرسة في السنبلاوين، ثم قراءات عديدة، وحينما أعلنوا أنهم في حاجة لمحركين عرائس في مسرح العرائس، تقدمتُ وكان يوجد خبراء من "رومانيا" يعلمونا ويمتحنونا بعد شهر من التدريبات، وقد نجحت وزاد مرتبي إلى 15 جنيه، فدخلت عالم مسرح المحترفين من هنا.
مسرح العرائس علمني وكان فيه الأساتذه الفنانين "ناجي شاكر" و"مصطفى كامل" الذي وضع ديكور (الليلة الكبيرة) –تزوَّجنَا فيما بعد- وتعرفت على عالم الفنانين التشكيليين والشعراء والموسيقيين، هنا تربية من نوع مختلف تمامًا، فقد رأيت معارض فنية بعدد شعر رأسي، وتعوَّدَت عيناي على الجمال الفريد لموسيقى الألوان والتكوينات في الفن التشكيلي، وقرأت كتب عديدة جدًا، ودخلت الأوبرا وشاهدت فنون العالم، ورأيت أفلام في المراكز الثقافية الأجنبية؛ وبالذات من أوروبا الشرقية في ذلك الوقت، فلم أكن أترك أي شيء دون مشاهدته، فكل مَنْ دخل حياتي تعلمت منه.
وكان صديقي المخرج الكبير (أحمد كامل مرسي) يمتلك مكتبة عظيمة جدًا، وكنت (حتة عيلة قدّ كده)، وهو راجل كبير قد أُحيِل للتقاعد، فكنت أذهب لعملي وأعود بعد العمل لأزوره، وكانت مكتبته تحت أمري وأقابل عنده ناس أتعلم منهم، حاليًا أنا بندهش من أين كنت آتي بكل هذه الطاقة؟ وكنت ما زلت متخلفة أقول: (إن وراء كل عظيم أمرأة)، ولا أرى نفسي نهائيًا.
فلم يكن يكفيني أني أُربي نفسي.. حينما كنت في مسرح العرائس طلبوا دفعة جديدة من الممثلين وكنت قد حصلت على ليسانس الحقوق، فتقدمت للامتحانات وكان معي وقتها "محمود ياسين"، فلم أنجح في الاختبار كممثلة، وسألوني إن كنت أرغب في العمل مديرة خشبة مسرح؟ فوافقت وبعدها عملت مساعدة مخرج مع كبار مخرجي المسرح: (كرم مطاوع وسعد أردش، والمخرج اليوناني موزونيدس)، والذي أخرج مسرحية "حاملات القرابين" ليوروبديس، وبعملي مساعدة إخراج تعرضت لثقافة مخرجين أجانب في المسرح الكلاسيكي والمسرح المودرن، وأنا طول عُمري آخذ الأشياء بمحمل الجد، فلم تكن الفكرة أن هذه هي وظيفتي.. فأنا أذكر جيدًا أني أثناء بروفات مسرحية "الفرافير" مع "كرم مطاوع" كنا ننتهي من العمل في الثالثة صباحًا، وكنت آخذ تاكسي وأنا فتاة صغيرة وأذهب لمنزلي في السيدة زينب، وهو حي شعبي، ولم أكن أخاف من كلام الناس والجيران، وفكرة: (هايقولوا عليّ إيه؟)، يبد أن هذا كلام بطولي، لكن هذه هي الحقيقة أنا عمري ما شعرت بأني امرأة يجب أن يكون لي دور مختلف، وعُمر ما كانت كلمة "العيب" بمعناها التقليدي لها حسابات عندي، أمي دائمًا كانت تقول: "ما عيب إلا العيب"، عُمري ما شعرت أن جسدي يجب أن يتغطى لأنه عيب أو لأنه عار، عُمري ماشعرت بهذا وحتى الآن...
وطوال عُمري أفكر أنني لما أحمل عقل جميل سوف ينظر الناس لعقلي وليس لقدمي، فطوال الوقت نضالي أن تنظر الناس إلى ما أفكر فيه لا إلى جسدي، وبالتالي خرجتُ من فكرة المرأة الجسد الحرام العيب، إلى فكرة المرأة العقل، فلما أملك عقلاً يوازي مَنْ أمامي، فلن ينظر لجسدي، وحميت نفسي ليس بالحجاب.. بل بالفكر.
**هل كان لوالدتك دور في هذا؟
أمي لم تعترض يومًا على شيء، هي وافقت أن أعمل وأنا عندي 17 سنة، عمومًا حكاية أمي لو تحدثتُ عنها، سوف أظلم الحكاية، ولكن ملخصها أن أمي كانت دائمًا تقول لي: "نفسي يا عطيات والنبي أشوف عندك فيلا وعربية"، ..أحلام الانتقال الطبقي.
**هل كان هذا هو التقدُّم من وجهة نظرها؟
أيوة.. أن أملك، أن يكون لدي أشياء أملكها، أنا غير قادرة عن التكلم عن أمي جيدًا، لكني محترماها جدًا، فلقد كانت امرأة مستقلة تمامًا، وحينما كبرنا وكنا نستطيع مساعدتها، رفضت تمامًا وأصرت على أن تعيش بمفردها في شقتها، وحينما ماتت عن 79 عامًا تقريبًا كانت في قمة وعيَّها، أخذتْ حمامًا ونامت على كنبة بالبيت ولم تستيقظ مرةً أخرى، ولكنها كانت واعية حتى آخر لحظة، فلم تفقد الذاكرة، كانت تصبغ شعرها وتضع الكُحْل حتى هذه السن، وتنزل للسوق بمفردها، وكان لديها حساب في البوسطة..
أذكر جيدًا أنه حينما تُوفيَّ والدي أنني أخدتها عندي لتقيم معي في أنجلترا، وسألتها عن كم سنة ظلت متزوجة والدي؟ فحسبناها فكان 50 سنة، فسألتها: هل كنتِ سعيدة معه؟ أجابت: ولا يوم، فلم أبكِ حتى هذه اللحظة إلا معها، فسيدة تعيش مع رجل لمدة 50 عاما وهي لا تحبه، أي صبرٌ هذا؟؟!
مُلَخص الكلام: "هذه هي أمي".
نعود لعلاقتك بالمسرح والتليفزيون والسينما.
حدثتُكِ بالطبع عن علاقتي بالمسرح وعملي في مسرحيات عديدة، وقد مثلتُ أدوارًا صغيرة، ثم بعد ذلك حسمت علاقتي بالمسرح، وكان لـ "عبد الرحمن الأبنودي" دورٌ في هذا.
بالنسبة للسينما: بالطبع مَنْ تشاهد الأوبرا وتعمل في المسرح وتبحث عن الثقافة؛ بالضرورة يجب أن تشاهد سينما.. فكان لا بد أن أذهب لسينما "مترو" وأجلس في الصالة، وسينما "قصر النيل"، ونبحث عن الأفلام بشكل رهيب جدًا، وأحضر مهرجانات وأسابيع الأفلام للدول المختلفة كانت تُقدمها وزارة الثقافة كنوع من التبادل الثقافي في سينما "رمسيس" وسينما "أوبرا"، يعني لم أترك أي نشاط ثقافي في القاهرة إلا وخزنته في عقلي ووجداني، وأعتقد أن هذا شيء فعله جيلنا كله.
**ماهي جذور علاقتك بالصورة السينمائية؟
أهم شيء اكتشفت به علاقتي بالصورة وليس بالكلام، كان عندي ميعاد مع زوجي الأول "مصطفى كامل"، وكان الميعاد عند الفنان التشكيلي "حسن سليمان"، وكنت قد ذهبت إليه مرة واحدة في "الأتيليه" الخاص به، وكان في "حي السكاكيني"، كنت فاكرة شكل البيت لما نزلنا من الأُتوبيس في شارع رمسيس، ولم يكن لديّ رقم تليفونه أو عنوانه أو أي شيء يدلنا عليه، غير رغبتي في الذهاب، لأجد مصطفى في ذلك الوقت، فاستعنت بذاكرتي وبحثت كيف نزلنا من الأُتوبيس ودخلنا في كام حارة، واستعدتُ صور السلالم والمدخل، حتى وصلت، ومن هذا اليوم عرفت أن ذاكرتي بصرية..
لقراءة الجزء الاول من الحوار أنقر هنا