بقلم : كمال غبريال
ها هو الدور قد جاء على "الليبرالية"، لكي يحدث معها نفس ما سبق وأن حدث مع رفيقتها "الديموقراطية". 
كانت البداية رفض وتكفير للديموقراطية والديموقراطيين، بإعتبارها منتجًا مستوردًا من الغرب الكافر، ويهدف إلى هدم الدين وتضليل المؤمنين... هذا ما قالوه في البداية عن الديموقراطية (ومازالت القلة تقوله)، بإعتبارها تحرض على ترك هدي شرع الله، والضلال وراء إتباع رأي البشر.
 
وعندما شاع واستقر مفهوم الديموقراطية في العالم أجمع، بحيث صار من العبث الطعن فيه أو مناهضته، اكتشفوا في الديموقراطية ما كان خافيًا عنهم، وهو أنهم يستطيعون عن طريقها الوصول لسدة الحكم، ليكون ذلك آخر العهد بالديموقراطية، ليبدأ الحكم بالسيف، والسوط، والرجم بالأحجار.
 بل هناك أيضاً من يتمادى في التنطع، فيخبرنا بأن الديموقراطية ذاتها هي التي تفرض علينا تكميم الأفواه وإطفاء الأنوار، مادام هذا هو رأي الأغلبية.
بدأت لعبة الهروب إلى الشاطئ المقابل من قبل المعسكر الإشتراكي الشمولي، فوجدنا أغلب دوله تلحق بأسمائها كلمة الديموقراطية، في حين لم نجد الدول الديموقراطية بالفعل تستخدم الكلمة، حتى صارت التسمية بالديموقراطية تعني للناس على الفور عكس المعنى، فمفتقد القيمة ينتحلها ويدعيها لنفسه، كما يحرص اللص أن يحدثك عن أمانته!!. .

 ومع اكتشاف جماعات الإسلام السياسي لمزايا الديموقراطية، صاروا يصرخون منادين بها، جنبًا إلى جنب مع شعاراتهم الأحادية والمهيمنة، والمخرسة لكل صوت، إلا صوت الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإله. .
إنهم يطلقون هذه السحابة من الدخان الوردي، لتعمى بها العيون، وعلى المتضرر أو من لا يقبل بهذا الخداع، أن يثبت العكس، وأن يبح صوته مثلما نفعل، في فضح ما يحدث للجماهير وللصفوة من خداع، يتيح لهؤلاء الإنضمام للمنادين بالديموقراطية، ومنحهم شرعية شعبية ووطنية، في مواجهة الدولة التي تحاصرهم بالقدر الذي تستطيعه!!

الآن جاء الدور على الليبرالية، التي كانت تحرّض حسب خطابهم على الإنحلال والفسوق، فتفكيرهم المتمحور حول جسد المرأة، لا يستطيع أن يفهم من الحرية إلا جانبها الجنسي، هذا الجانب الذي يحتل مكانة أولى في خطابهم المهيمن، والذي يقر،  بطلاء شفاف من الشرعية المدعاة، ما يستنكره ويندد به هؤلاء في الظاهر، بل ويستهجنه ويرفضه رفضًا قاطعًا أصحاب الليبرالية المفترى عليهم!!. .

 الليبرالية الآن، وبعد إنهيار النظم الشمولية وأيديولوجياتها المعادية لحرية الفرد، والتي كانت تحاول سجن الإنسان داخل قوالبها، ليستحيل إلى مجرد ترس في آلة، ليكون فقط من واجبه أن يكدح، ومن حقه أن يأكل ويتناسل، دون أن يُسمح له بالتفكير أو حتى بالحلم بحياة تختلف عن تلك التي يحشرونه فيها كما لو زنزانة... بعد إنهيار كل الجدران التي كانت تحاول إعتقال الإنسان باسم الحقيقة المطلقة التي توصل إليها عباقرة الشمولية،.
سادت الليبرالية العالم والشعوب الحية، ليحقق كل فرد فيها ذاته، لتتحقق بالتالي ذوات الجميع، فينهض المجموع بنهضة الفرد، بعكس ما كان من محاولة قهر الفرد بحجة تحقيق صالح المجموع.

هكذا بدأنا نرى اليساريين يلحقون بتوصيفهم كلمة ليبرالية، سواء جاء انتحال الوصف معبرًا عن تحول حقيقي في الفكر، ينحو لفهم المبادئ الإشتراكية على أسس جديدة ليبرالية، أو جاء إنتحال كلمة الليبرالية كمحاولة مخادعة لتجميل وجه متجمد وقبيح!!
لكن الطريف أن يدخل لعبة انتحال الليبرالية، أشد تيارت الإسلام السياسي تطرفًا، يفعلون هذا ليس فقط لمجرد التجمل، بل يستخدمونها كحجة في مناطحة الشعوب والحكومات الليبرالية، إذا ما بدأت تتخذ إجراءات تحافظ بها على حضارتها ومناخها الليبرالي. .

 صارت الحجة التي يدافعون بها عن إرتداء النقاب في أوروبا هي الإيمان بالليبرالية. . الأمر عجيب وطريف إلى حد يجعلنا نتوقع لهؤلاء إذا ما تمادوا في تقهقرهم في الزمن والحضارة حتى يصلوا إلى العصر الجاهلي، أن يطالبوا بحقهم في وأد البنات بموجب الليبرالية!!
الأمر هكذا يمكن أن ينظر له من وجهين، الوجه الأول يدعو للاستبشار بالحاضر والمستقبل، فبعد أن كانت الليبرالية وصمة يخشى الفرد أن تلحق به، صارت الآن ملاذًا يهرع إليه حتى أشد أعداء الحرية. . يعني هذا بالتأكيد أن الليبرالية تنتصر على كل أيديولوجيات القهر والهيمنة، وأن حق الإنسان الفرد أن يكون ذاته قد صار بديهية مقدسة لا يجرؤ أحد على منازعته فيها.

لكن من الوجه الآخر فإن سوء الإستخدام للمفاهيم، وتحميلها بما هو مضاد لمضمونها الحقيقي، هذا يمثل خطرًا وعائقًا للشعوب حديثة العهد بذلك المصطلح... فلقد تم تشويه مفهوم الليبرالية بداية، بوصمه بالدعوة للفسق والفجور، لنعود وننقلب على أعقابنا، لنستخدمه لتبرير تكفين النساء، وترويج دعوات العداء والإستبعاد للآخر، بدعوى حرية الإلتزام بالعقيدة. . مثل هذه الألاعيب تجعل إنسان هذه المنطقة كمن يترنح ويدور حول نفسه عدة دورات، قبل أن يسقط نهائيًا طريح مستنقعات التخلف!!

ومرحليًا هناك أيضًا مشكلة غير هينة، وهي إلتباس مفهوم الليبرالية عند الشعوب الأوروبية مبدعة الليبرالية ذاتها، ذلك الإلتباس الذي يعوقها حتى الآن عن اتخاذ موقف حاسم من أولئك الذي ذهبوا إلى أوروبا ليدمروا الحضارة على رؤوس أصحابها. .

لا نتوقع بالطبع أن يبقى هذا الإلتباس طويلاً، فالظلاميون أنفسهم بتماديهم في غيهم، سوف يدفعون الشعوب الحرة للإستيقاظ، وإلى "إدراك الحمرة من الجمرة". . إدراك الفرق بين ممارسة الحرية لتحرير الإنسان، وبين استخدامها لقهره وإسدال ستارة سوداء على الحياة والحضارة.

الآن لنا أن ننتظر أن يأتي الدور على المفهوم الثالث، والذي يمر الآن بطور المحاربة من قبل محترفو خلط الأوراق، وخداع البسطاء. . ذلك هو مفهوم "العلمانية"، الذي يصور للناس الآن على أنه مرادف للكفر بالله وبالأديان، تمامًا على ذات النهج الذي سبق استخدامه مع مفهومي الديموقراطية والليبرالية، مع فارق طفيف فيما ينسبونه من تهم زائفة في كل مرة ولكل مصطلح. .
الدور الآن على "العلمانية" لتسود، وليقتنع الجميع بأنها الطريق لوضع الأمور في نصابها، لكي "نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".