عكاشة والواقع المصري
بقلم: هانى عزيز الجزيري
قلب موازين الدراما في العالم العربي، وأضاف بُعداً جديدًا لها بعد أن عودنا أن نتابع مسلسلاته لسنين عديدة، منها (ليالى الحلمية)، والذي حكى فيها قصة مصر منذ مطلع القرن العشرين، حتى وصل بنا إلى زمن القطط السمان وشركات توظيف الأموال.
حكى كل هذا من خلال الشارع، وليس من خلال الصفوة والمثقفين، وكانت الأمثلة متباينة؛ فمن قصر الإقطاعي إلى قهوة البلطجي، ومن منازل الناس (المستورين) إلى حياة (العوالم)، ورصد أيضًا تحولات الأحياء المصرية وماطرأ عليها من تغيرات، وأخذ حي "الحلمية" كمثال لهذا التحول.
ورسم صراعًا كوميديًا ساخرًا مريرًا من خلال المواجهات المستمرة بين العُمدة والباشا، اللذان تصارعا وتشاركا حتى في الزوجة، وطرق كل منهما في التحايل للوصول إلى هدفه، ولكن الزوجة عشقت الباشا، ولم تستطع الاستغناء عن العمدة لوجود مصالح مادية، وأيضًا لوجود إبنة شرعية منه.
عانت هذه الإبنة من العلاقة الغير سوية بين العمدة وزوجته، ولو تصورنا أن الزوجة تصور شخصية مصر قبل الثورة، والتي كانت متحيرة بين أبناءها أولاد البلد ويمثلهم العمدة، وبين الباشوات والمتمصرين ويمثلهم الباشا المصري الأصل وأبناء طبقته ذوي الأصول الغير مصرية، ونتج عن تزاوج الباشا مع مصر إبن غير سوى، سرعان ما عاد إلى جذور أبيه، وآمن بمصر، وانتمى إليها، وأيضًا نتج عن تزاوج الباشا من بنت فقيرة مصرية؛ شاب مؤمن بمصر وثوري، ولكن حينما تغيرت الأجواء، أفقدته الصدمة كل موروثاته، وركب موجة بيع مصر، والإتجار بها، وأصبح خطرًا عليها أكثر من الأخرين، ونتج عن تزاوج العمدة بمصر قبل الثورة؛ مصر جديدة مترددة، لا تجد نفسها في أي بيت، حتى أنها رغم ثراء والديها، عاشت فترة في ملجأ؛ لأن والديها لم يمنحاها الأمان المطلوب، فأخطأت حتى في حق حبيبها الوحيد، وضاع مستقبلها، وأنجبت إبنًا معوقًا لم يلبث أن مات.
والغريب أن اختار لها اسم "زهرة"، والتي تُمثل المستقبل والحياة.
هل كان يقصد "عكاشة" ما أقوله الآن؟
"عكاشة" ترك لكل فرد فينا العنان ليتخيل كيفما يريد، ويعيش الحدوتة من منظوره، وليس من منظور "عكاشة"، حتى في رصده لحالات التطرف الديني والاحتقان الطائفي، جاء بها من مفهوم الحياة العادية، وليس من حياة المتطرفين.
ووصل بنا عكاشة إلى الصورة النهائية لمصر في اللقطة الأخيرة من مسلسله وهى؛ تواجد كل هذه المتناقضات وتعايشها معًا، مع استمرار خلافاتهم واستسلامهم للأمر الواقع، مع تقبلهم على مضض تواجدهم معًا يوم عيد ميلاد "نازك".
فهويعبر عن الفوضى وعدم التجانس الذي تعيشه مصر الآن.
أما في "زيزينيا"، فلقد صور "عكاشة" معشوقته "الإسكندرية"، والتي كان يعتبرها "الكوزموبوليتان"، وهى تجمع –بحب- كل الجنسيات، وتربطها مصالح أحيانًا مشتركة، وأحيانًا متباينة، وربط كل هذا بالنضال ضد الاستعمار، وصور لنا واقع سكندري حقيقي، ما بين قصور الإبراهيمية، وحواري السيالة، وكبائن أبي قير.
ولكنني كنت دائمًا آخذ عليه تفسيره لكلمة "اعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
كان تفسيره لها؛ إذا كنت تتعامل في الحياه العادية، فعليك أن تستغل كل شيىء من أجل جمع المال، واستغلال كل الفرص لذلك.. حتى لو كانت هناك شبهة طمع، هذا ما حاولت أن توصله للمشاهد، وساعدك في ذلك طريقة إلقاء الممثلة لكلمات الحوار في ذلك المشهد، مع أن المقصود أن نفصل بين ما لقيصر وما لله، لكي لا يعثر أحد، والدليل على ذلك قصة الفلسين الذيّن دفعهما "بطرس" بعد اصطياده سمكة لدفع الجباية عنه وعن "يسوع".
ولا ننسى أن "زيزينيا" كانت بداية بزوغ نجم الفنانة "منى زكي".
وبعيدًا عن الكاتب "أسامة أنور عكاشة" نجد الرجل ذو الرأي السياسي، فبينما كان "عكاشة" في بداياته ناصريًا، إلا أنه تخلى عن أهم نقاط الناصرية، وهي "العروبة"، وهاجمها، وأعلن ذلك بكل قوة، ودون هوادة أو تردد، وتكلم عن الناصرية كفكرة رومانسية، وكفترة استرتيجية في تاريخ المنطقة كلها.
وكانت له آراء صعبة جدًا، وجريئة جدًا، منها رأيه في "عمرو بن العاص"، الذي سبب جدلاً واسعًا وتباينًا في الآراء، ربما أفقده الكثير من جماهيريته، حيث هاجمه بشدة.
ظل "أسامه أنور عكاشة" على قمة عرش الدراما التليفزيونية قرابة الثلاثين عامًا، يُشكل في عاطفة ووجدان الشعب المصري، ويغوص في أعماق المجتمع، ليخرج لنا بقصة هي الحقيقة، فنقتنع بها، وترسخ في وجداننا.
رحم الله أسامه أنور عكاشة.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :