CET 00:00:00 - 03/06/2010

مساحة رأي

بقلم: كمال غبريال
فلنتخيل أننا داخل سيارة لا يستقر قائدها على اتجاه يوجهها إليه، وأن ركابها يرغب كل واحد منهم بالسير في اتجاه مخالف لما يريده الآخرون، واحدٌ يُطالب السائق بالتقدم للأمام، وآخر يصرخ مناديًا برجوعها للخلف، وثالث يريدها التوجه يمينًا ورابع يشير إلى ناحية اليسار، مع هؤلاء أيضًا على متن السيارة أناس غاضبون متذمرون، لأن السيارة هكذا لا يمكن أن تذهب إلى أي مكان، فهي إن تقدمت بضع خطوات في اتجاه ما، لا تلبث أن تتقهقر منحرفة عنه يمينًا أو يسارًا، ما لم تعد أدراجها ثانية من حيث أتت.

هذا هو حال مصر بالتحديد، حيث الكل ناقم على السائق، لأنه لم يأتِ إلينا في سيارتنا العجيبة هذه بوجبات "الكنتاكي والسفن أب" معها، دون أن نسأل أنفسنا لماذا يفشل هذا السائق في قيادة سيارتنا؟ هل لأن روحًا شيطانية تتلبسه، وتوسوس له بأن يقودنا إلى الضياع، أو بالأصح لا يقودنا إلى أي مكان، خلا مستنقع التخلف الذي نرزح فيه، أم أن رأس المشكلة هو أنه مرتبك ونحن معه، لأننا لا نستطيع أن نحدد بالضبط ماذا نريد، أو بتعبير آخر إلى أين نتجه حتى نستطيع توفير الحياة التي نريدها لأنفسنا؟!!

إزاء كل هذه التوجهات المتضاربة، ليس فقط بين الفرق المختلفة، بل وبين أصحاب الاتجاه الواحد وبين أنفسهم، فمن يطالب مثلاً بالعودة بالبلاد إلى نظم وعلاقات وقوانين القرن السابع الميلادي، يريد رغم هذا أن يظل يركب المرسيدس والطائرة ويحمل الموبايل، ولا يتصور نفسه يمتطي ناقة مباركة تضرب في الصحراء على بركة الله.. هؤلاء أيضًا عندما يتحدثون عن الحرية، يطالبون بحريتهم في الدعوة، مطالبين في نفس الوقت بقطع رقاب المبشرين.

 هكذا وعلى ذات النمط يطالبون بحرية بناء مساجد ومآذن في أوروبا، وبعدم بناء كنائس في المدن التي بناها مسلمون، وبهدمها في المدن التي دخلوها بالقوة، وبتركها تنهار بتأثير الزمن في المدن التي استسلمت للجيوش العربية الغازية.

لا نتحدث هنا لنبين بؤس ما يعتنقونه من آراء، لكننا نتحدث عن التضارب في خيار الإنسان الواحد أو التيار الواحد، ناهيك عن الاختلاف البين بين مختلف التوجهات.. يذكرني هذا بشيء قريب منه كان يرتكبه الراحل د. مصطفى محمود، فقد كان يقدم برنامجًا تليفزيونيًا أسبوعيًا بعنوان "العلم والإيمان"، كان يقدم فيه أفلامًا علمية عن الطبيعة والكائنات الحية، صورها علماء جادون من "الذين كفروا"، "صاحبنا" يشتريها أو ينتحلها منهم، ليردد أثناء عرضها تنهدات وحولقات وتحريضات ضد العلم والعقل!!

هل نريد دولة دينية محكومة بشرائع إلهية، أم نريد دولة مدنية بقوانين يسنها البشر لصالح البشر؟

هناك من ركاب السيارة المصرية التي تحدثنا عنها في البداية من يريد دولة دينية، إذ يرون هذا خيرًا وأبقى للحياة الآخرة، كما يرون أن هذا وحده كفيل بأن يفيء علينا الله بخيرات الدنيا، وأن يُسَخِّر لنا من بين "الذين كفروا" من يخترع لنا الأدوية وينتج لنا الأكل والملابس والسيارات والموبايل لكي نستخدمها ونتناكح ونتمطى، ونحن نوجه لمخترعيها اللعنات والاتهامات بالفسق والفجور، ونرسل لهم فتياننا الاستشهاديين الذين آمنوا بربهم، ليقتلوهم جزاء كفرهم!!

وهناك في داخل نفس السيارة من يريدها دولة علمانية، يستخدم فيها الإنسان عقله، وما توصل إليه عبر عصور من العلم والخبرات، لكي يؤسس لنفسه حياة راقية تنمو وتزدهر باستمرار.

يرى هؤلاء أن إعمار الدنيا هو وحده الذي يرضي الإله، وأن رفاهية الناس وسعادتهم هي الغرض الأسمى لجميع الرسالات السماوية، وأن القوانين أو الوصايا المنصوص عليها بالكتب المقدسة، كان المقصود بها تحقيق هذا الغرض في أزمنة هذه الرسالات السماوية، بمعنى أن إرضاء الله يكون بإسعاد البشر، وليس بتنفيذ نواميس أو قوانين هو جل جلاله يريدها في حد ذاتها، وأنه بتغير الظروف والأزمان والأحوال، يكون إرضاء الله هو بتحقيق غايته في إسعاد البشر وتنظيم حياتهم بصورة صالحة، وليس أبدًا بالتوقف عند قوانين وقواعد لم تعد مناسبة لعصرنا الراهن.

الفارق إذن بين الفريقين ليس أن أولهما يتقي الله ويعبده خير عبادة، وأن ثانيهما ملحد وناكر لوجود الله أو خارج عن طاعته.. فالفارق الحقيقي بين الطرفين هو أن أولهما يتوقف عند قواعد وقوانين سنتها العناية الإلهية لأنها كانت كفيلة في وقتها لتحقيق الغايات الإلهية، التي هي تحقيق خير الإنسان، فيما الطرف الثاني يركز على الغايات الإلهية ذاتها، ويعمل على تحقيقها مستخدمًا للعقل الذي وهبه الله إياه.. يرى هذا الطرف الأخير أن التشبث بقوانين تغيرت الظروف التي سنت لها، سوف يترتب عليه فشلنا في السعي لتحقيق الإرادة الإلهية، وبالتالي يكون الإيمان وليس فقط العقل، هو الذي يحتم علينا إعمال عقولنا، لنرتب حياتنا وفق الصالح الذي هو بالحقيقة وليس أي أمر سواه هو مشيئة الإله!!

لكن التضارب والاختلاط داخل ركاب السيارة المصرية لا يقتصر على ما بين هذين الفريقين من تضاد، فهناك فرق أخرى نسمع منها العجب العجاب.. هناك فريق يرفض قوانين الآخر الدينية، ويواجهها بالمطالبة بالدولة المدنية والقوانين الوضعية التي تساوي بين جميع البشر، لكن هذا الفريق ذاته إذا ما جاء الدور على تطبيق ما يعتقد هو فيه من قوانين إلهية، نجد خطابه ينقلب مائة وثمانين درجة، فيتمسك بقوانيه الإلهية، منكرًا في نفس الوقت على الطرف الآخر التمسك بقوانينه، إلا ما يوافق منها هواه.. البيع هنا "على الدواق" كما يقولون، رغم أنه حتى الباعة الجائلين في عصرنا "المنيل" هذا، لا يقبلون بمنطق "على الدواق"، ويصرون على البيع "شروة على بعضها"، وفي قول آخر "لكشة واحدة"!!

نموذج آخر لمنهج التخبط والشراء "على الدواق"، تكرم به علينا أخيرًا شاهبندر "الجمعية الوطنية للتغيير"، والرجل الثاني للتحول الديموقراطي، بعد الرحالة العالمي قائد المسيرة التي تصورناها خضراء، فقد صرح "لافض فوه ومات حاسدوه" أنه ينبغي إعادة النظر في اتفاقية السلام مع إسرائيل، لاشك أن أقوال المناضل على صفحات الجرائد يمكن أن تكون "نافعة"، "في إيه؟.. لسه مش عارف"، لكنها يمكن أن تكون "نافعة" إذا تُرك له أو لنا حرية الاختيار، والتفرقة بين بنود الاتفاقية التي نريد التمسك بها، وتلك التي نريد التبرؤ منها والنكوص عنها.. فالاتفاقية "بالبلدي كده" تشمل بنودًا للانسحاب الإسرائيلي من سيناء إلى حدود مصر الدولية، وتشمل بجانبها ترتيبات أمن واتفاقيات لتعاون سلمي يؤسس لسلام حقيقي بين الطرفين.

من الواضح أن المراجعة للاتفاقية ستكون "نافعة"، إذا تمت بمنهج "على الدواق"، فيتيح لنا المجتمع العالمي وإسرائيل أن نتحلل من احتياطات الأمن وشروط السلام، التي يبدو أنها هي التي لا تدخل مزاج صاحبنا، لكنها في نفس الوقت تسمح لنا أن نبقي على سيناء محررة، ولا تعود إليها إسرائيل بقواتها، ريثما ينتهي شاهبندر التغيير من إعادة النظر في الاتفاقية!!.

أما إذا تحتم أن تكون المراجعة شاملة، أي "لكشة واحدة"، بما يقتضي عودة القوات الإسرائيلية (لا قدر الله) إلى سيناء، لتعيد تأسيس مستوطنات كتلك التي أزيلت، وكمثيلتها في الضفة الغربية لفلسطين، وتعطي في مقابل ذلك الوقت كاملاً لشاهبندر التغيير ولأسياده في الجماعة المحظورة، ليعيدوا النظر في الاتفاقية على أقل أقل من مهلهم.. إذا كان الأمر لابد وأن يكون كذلك، فهل يمكن أن تكون شورة إعادة النظر في الاتفاقية "نافعة"؟!!

على الشعب المصري يا سادة، وعلى قياداته على مختلف المستويات وفي كل المجالات أن تحسم أمرها، لنحدد معًا ماذا نريد، وإلى أين يجب أن نتجه، وإلا فهي الفوضى والتخبط الذي لا نعرف ماذا ستكون نهايته، إن لم يكن المزيد من التخلف والخراب.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق