بقلم: القس رفعت فكري
في المقال السابق ذكرنا أربع ملحوظات على قضية التبشير وهي :-
أولاً :-  أن هناك فرقاً شاسعاً بين النصرانية والمسيحية, والنصرانية ليست هي المسيحية ولكنها تختلف اختلافاً كلياً عنها.
ثانياً :- أنه لا السيد المسيح ولا رسله أجبروا أحداً على اعتناق المسيحية .
ثالثاً :- التبشير أمر كتابي طالب به السيد المسيح جميع تابعيه قبيل صعوده إلى ومن ثم فالتبشير دعوة عامة لجميع الكنائس ولكل المؤمنين بالمسيح.
رابعاً :- كلمة (إنجيل) في أصلها اليوناني تعني البشارة المفرحة أو الخبر السار ومن ثم فالمسيحيون عندما يبشرون ويكرزون بالإنجيل فهم يقدمون رسالة مفرحة وخبراً ساراً للعالم من حولهم.

وفي هذا المقال نستكمل بقية الملحوظات :

خامساً :- حتى لا تختلط المفاهيم وحتى لا تتوه الحقائق لابد أن نؤكد أن التبشير لا يعني أبداً إزدراء الأديان , فالتبشير هو فقط الكرازة  برسالة المسيح كما أوضحنا أما ازدراء الأديان فهو التعرض للأديان الأخرى المغايرة بالتهكم والسخرية وهو أمر لم يدعونا إليه السيد المسيح وكل مسيحي حقيقي لا يمكن أن يوافق على ازدراء الأديان الأخرى , وحيث أن التبشير لا يعني أبداً ازدراء الأديان  فإنه من المضحك المبكي فى عالمنا العربي أن يصر البعض على إلصاق تهمة ازدراء الأديان  بالمبشرين بالمسيح لا لشئ إلا لكي يحدوا ويحجموا عملية التبشير ويروعوا قلوب المبشرين بالمسيح حتى يكفوا ويمتنعوا عن فعلهم الآثم !!!
سادساً :- أود أن أقول لكل من يرفضون التبشير ولكل من يتنكرون له أن حق التبشير هو حق أصيل من حقوق الإنسان   ولقد جاء نص المادة 18   من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية :-
1
- لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملا أوعلى حدة.
2- لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
3- لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
   وحيث أن من يبشرون بالمسيح لا يكرهون أحداً على الإيمان به ولا يستخدمون العنف أو الإرهاب في الدعوة للمسيح فمن حقهم أن يبشروا بالمسيح ويكرزوا بالإنجيل . لقد سافرت إلى بعض بلدان أوروبا وعلى الرغم من وجود أغلبية تدين بالمسيحية في تلك البلدان إلا أني شاهدت بعيني رأسي مسلمين يدعون الأوربيين إلى اعتناق الإسلام بل ورأيت ما هو أعظم من هذا رأيت مسلمين يهاجمون المسيحية علناً في شوارع وطرقات البلدان الأوروبية بل ويقومون علناً بتوزيع المنشورات والكتيبات التي تهاجم المسيحية ومع هذا لم يمنعهم أحد بل ولم يلصق بهم أحد تهمة ازدراء المسيحية !! لماذا ؟!! لأنهم متأكدون أن المسيحية ليست واهية وليست ضعيفة ولا يضيرها أن يهاجمها أحد وذلك لأنها أقوي من أي هجوم وأرسخ من أي مقاومة فهي كالطود الشامخ الذي لايتأثر أبداً بنطح الفئران !! , وكذلك أيضاً لأن البلدان ذات الأغلبية المسيحية تحترم حقوق الإنسان وتحترم الحريات ومن ثم فهى لا تمنع أي أحد من أن يدعو لدينه .

سابعاً :- من الواضح إن مفهوم حرية الاعتقاد في عالمنا العربي يختلف عن مفهوم الحرية المعروفة في العالم أجمع  فحرية الاعتقاد هي حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من عقيدة وحريته في إقامة شعائر هذه العقيدة علناً وبحرية, وحريته في الدعوة إليها طالما يفعل ذلك بطريقة سلمية ودون إكراه والأهم حريته في أن يتحول من أي دين إلى آخر .فهذه هي حرية الاعتقاد في تعريفها الحقيقي كما يعرفها العالم أجمع ولكن المؤسف إن حرية الاعتقاد في رأي بعض الناس – في عالمنا العربي فقط  -  هي طريق ذو اتجاه واحد نحو دين واحد, أما عند حدوث العكس فهنا لا بديل سوى القتل وإراقة الدم.  ولهؤلاء نقول ..إن حرية الاعتقاد هي طريق متعدد الاتجاهات ولم تكن أبداً طريق ذو اتجاه واحد ومن يطالب بحرية الاعتقاد يجب أن يطالب بالحرية للجميع أو ليصمت, لأنه إذا كانت حرية الاعتقاد مقيدة في حدود اعتناق دين واحد فقط, في هذه الحالة تصبح حرية الاعتقاد مجزأة ومشوهة وعرجاء, وفي هذه الحالة لايجوز أن نتباهى أو نتغنى بحرية اعتقاد , ومن ثم يكون المنادون بهذه الحرية المجزأة العرجاء مفتقدين للمصداقية في أبسط صورها, إن احترام حقوق الإنسان وأولها حقه في حرية الاعتقاد أصبح اتجاهاً انسانياً عاماً وقانوناً دولياً وهو مايجب أن ننادي به جميعاً, والتأكيد على حق المواطنة في مصر بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو اللون أو العرق هو السبيل الوحيد لوضع حد لأي فتنة دينية أو تدخل من أي جهات خارجية .أما إذا رفضنا تطبيق المواثيق الدولية لاحترام حقوق الإنسان فنحن نضع أنفسنا في مأزق مع العالم المتحضر من حولنا وسنجد مصرنا الحبيبة تتصدر قائمة الدول التي تنتهك الحريات وحقوق الإنسان في كل تقرير تصدره لجنة الحريات !!.

ثامناً :- أود أن أقول لمن يتنصلون ويتبرأون من التبشير لماذا تخافون من التبشير والمسيحية لا تبشر إلا بالحب والسلام ولا تدعو إلا للتسامح والغفران ؟!! فالمسيحية ترفض رفضاً باتاً كل أنواع العنف بدءاً من العنف اللفظي وحتى العنف البدني فلقد ولد السيد المسيح في عصر كله حروب ومنازعات ولكن يوم ميلاده أنشدت السماء أنشودة السلام ( المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ). لقد رفض السيد المسيح استخدام أسلوب العنف بكل أشكاله لقد جاء إلى عالم كان العنف فيه وسيلة سياسية عادية للوصول إلى الأهداف ولقد شهد القرن الأول في فلسطين مهد السيد المسيح الكثير من العنف ولكنه رفض اللجوء إلى استخدام الأساليب العنيفة فقد تبعته جماهير كثيرة ومع أنه لم يكن محبوباً من أصحاب السلطة إلا أنه كان محبوباً من رجل الشارع ولو طلب المسيح من الجموع أن يتوجهوا إلى المعسكرات الرومانية التي كانت تحتل أورشليم في ذلك الوقت لمحاربتها لما ترددوا في أن يطيعوه ولكنه اختار طريق السلام فهو لم يجد في العنف طريقه لتغيير قلوب الناس. إننا نستطيع أن نغير الحدود الجغرافية بالعنف ويمكن أن نحصل على السلطة السياسية بالعنف ويمكن أن نأخذ مالاً بالعنف ولكن العنف لا يمكن أن يكسب ولاء القلوب وهذا ما جاء المسيح ليفعله فهو جاء ليملك على قلوب الناس ولما كان ملكوت الله روحياً وليس جغرافياً فلم تكن هناك دوافع للحروب لأن المحبة الحقيقية لا تجبر أحداً على شيء. ولو أن هناك وقتاً كان العنف لازماً فيه لكان ذلك وقت إلقاء القبض على المسيح فقد جاءت جماعة كبيرة بسيوف وعصي فاستل بطرس مقدام الحواريين سيفه ليواجه الجماعة المعادية وأراد أن يرد الإرهاب بالإرهاب فضرب عبد رئيس الكهنة وقطع أذنه وكان هذا رد فعل طبيعياً من تلميذ يريد أن يدافع عن معلمه ولكن المسيح لم يقبل هذا التصرف وقال لبطرس ( رد سيفك إلى مكانه لأن الذين يأخذون بالسيف فبالسيف أيضا يهلكون ). ولازالت تلك الكلمات العظيمة الخالدة يتردد صداها عبر العصور والأزمان , إن سبيل المسيح هو سبيل السلام الذي يأسر قلوب البشر وعقولهم بالمحبة , وبالفعل استطاع المسيح أن يأسر القلوب والعقول بالمحبة وكان سبيله إلى ذلك رفضه العنف بشتى صوره.

إن السيد المسيح هو باعث كل رجاء وهو مصدر كل سلام لقد جاء إلى عالمنا ولم يعلن حرباً ولم يشكل جيشاً ولكنه حارب الظلم والفساد والشر والخطيئة. لم يركب جواداً ولم يرفع سيفاً ولا حتى صوتاً , لقد كان سيفه الوداعة ورمحه المحبة وسلطانه سلطان الغفران والتسامح. لم يفتح مدينة ولكنه فتح أعين العميان وآذان الصم كما فتح أبواب الأمل أمام البائسين واليائسين والساقطين. لم يثر مشاعر البغضة ولم يحرض أحداً على أحد لكنه حرض الجميع على الحب والتآخي والعطاء والغفران بلا حدود لذا قال عنه نابليون بونابرت ( إن الأسكندر الأكبر وأنا أقمنا الإمبراطوريات بقدرة وعبقرية وأسسناها على القوة والسلاح أما المسيح فقد أقام إمبراطوريته وأسسها على الحب ). حقا إن المسيح هو صانع السلام الأعظم فهو عاش عملياً ما علمه نظرياً وهو الفريد الذي طبق كل ما قدمه للناس من تعاليم ولم تختلف أعماله عن أقواله لقد كان السلام هو الركيزة الأساسية في كل حياته وتعاليمه فهو لم يدرب جندياً ولم يطلق مدفعاً ولم يعلم أتباعه أن يحملوا سلاحاً أو سيفاً ولكنه طوب صانعي السلام بقوله ( طوبى لصانعي السلام ) إنه رسول السلام الذي قال طوبى لصانعي السلام.فهل في هذه الرسالة السامية ما يدعو للخوف أو الخجل ؟!! هل في هذه الرسالة النورانية مايندى له الجبين أو يقشعر له البدن ؟!! أليست هذه الرسالة المتحضرة الراقية هي التي يحتاجها من يروجون للكراهية والعنف والإرهاب ورفض الآخر المغاير ؟!!

وختاماً أود أن أقول لمن يتنصلون من التبشير ويتنكرون له ويزعمون إنهم منه براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب .. لا تخجلوا من رسالتكم ولا تتنكروا لها فرسالتكم رسالة سامية راقية متحضرة .. رسالتكم رسالة حب وسلام , رسالتكم رسالة تسامح وغفران ,  فبشروا بالحب لعالم يموج بالكراهية وقدموا النور لعالم يتخبط في دياجير الظلام , اكرزوا بالسلام لمن لا يعرفوا إلا أن يروجوا للخصام , بشروا بقبول الآخر المغاير لمن لا يجيدوا إلا التبشير بالتعصب والعنصرية , بشروا بالغفران لمن لا يعرفون إلا لغة التشفي والانتقام , اكرزوا بالتسامح لمن لايجيدون إلا لغة القنابل والمتفجرات ولايتعاملون إلا بالقتل والعنف والإرهاب , بشروا بمسيح الحب والسلام فهو  الطريق والحق والحياة , إنه رجاء الأمم ونور العالم ومن يتبعه لا يمكن أن يمشي في الظلمة , بشروا وبشروا وبشروا ... لا تخافوا ولا تخجلوا ...........  فهل أنتم فاعلون ؟!!   

راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@hotmail.com