بقلم: جرجس بشرى
عندما أمسك بقلمي لأكتب عن شخصية الكاتب الكبير "أسامة أنور عكاشة" أشعر بالفخر.. نعم.. أفتخر ببلدي الحبيبة مصر التي أنجبت هذا الكاتب المبدع الذي أعتبره من وجهة نظري "مُعجزة الدراما العربية"؛ كما أشعر بالفخر كذلك بسبب الجينات المصرية الخالصة التي كانت تسري في عروق ودماء وإحساس هذا الرجل، لدرجة أن انعكست هذه الروح والدماء المصرية وتفجرت في كتاباته، ورؤاه وأعماله الدرامية، ومسلسلاته التليفزيونية التي رأيناها، وأحببناه، وتأثرنا بها، مثل " ليالي الحلمية "، و" الشهد والدموع" وغيرها.
ويعوزني الوقت هنا لأسرد رصيده الفني والفكري.. لقد استطاع كاتبنا "رحمة الله عليه" أن يسرد أوضاع المجتمع المصري الاجتماعية والإنسانية والوطنية في مراحل مهمة من تاريخ الأمة بدون تزييف للواقع، فقد كان الرجل صاحب قضية، ولم يستطع أحد أن يشتري قلمه أو يؤثر على قناعاته التي كان يؤمن بها، ولم يفلح أحد أيضًا أن يُسخره ضد مبادئه المصرية والوطنية التي كان يؤمن بها إيمانًا شديدًا.
كان الكاتب الراحل يؤمن بالمواطنة الكاملة لكل المصريين دون تفرقة بينهم بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وكان ينتقد نقدًا لاذعًا حوادث الفتنة الطائفية التي تتكرر من وقت لآخر للنيل من وحدة مصر، وأتذكر للكاتب مقالاً نشرته صحيفة "الوفد" بعنوان "النار والرماد وأرض النعام" انتقد فيه بشدة المنازعات التي تنشب بين الحين والآخر بين المصريين المسيحيين والمصريين المسلمين بسبب اختلاف المُعتقد الديني، والأساليب التي يتبعها الحزب الوطني والإعلام الرسمي للتهوين من شأن هذه الحوادث بإيجاد مبررات غير معقولة لها كالتأمر والاستقواء بالأجنبي، وإلقاء الاتهامات جزافًا على أقباط المهجر! وقال عكاشة في المقال المُشار إليه:
(لأشك أننا يجب أن نواجه الحقائق بصراحة حاسمة حتى لو كانت مؤلمة أو موجعة؛ وأول هذه الصراحة أن نعترف بأن ما يشكو منه مسيحيو مصر يحمل الكثير من الحقيقة، وأن هناك تمييزًا لا شك فيه يعانون منه، ولا يمكن أن يسلم جسد الوطن في حاضره ومستقبله طالما ظلت عِلة التمييز والتفرقة بين أبنائه قائمة، والحقيقة أن ما يُزعج هو أن نعرف وندّعي الجهل، وندير رؤوسنا بعيدًا عما نراه، ولا يمكن أن تستقيم الأمور بممارسة النفاق الذي نتعامل به مع المشكلة عن طريق إغضاء الطرف عن الظلم لإرضاء فصيل نخشى مواجهته، ويجب أن يتخلص النظام السياسي في مصر من حالة الهروب من المشاكل الحقيقية بالكذب، والإنكار، وتخطي المنطق والمعقول. وستظل مشكلة الفتنة الطائفية بكل أسماء الدلع التي نطلقها عليها تهوينًا من شأنها؛ ستظل كامنة تحت الرماد إلى أن يتحقق لمصر التغيير المطلوب، في أن يسودها النظام الجمهوري البرلماني المدني، يفرضه دستور يساوي بين الجميع في حقوق المواطنة، وكفانا "لكاعة" تشبه لكاعة بني إسرائيل حول البقرة!).
"أرايتم كيف كان هذا الرجل مهمومًا بقضايا بلده؟"، وما زادني تقديرًا لهذا الكاتب المبدع هو ما قاله عندما سُئل عن رأيه فيما يتعلق بالإضراب العام الذي سينظمه بعض النشطاء الأقباط يوم 11 سبتمبر احتجاجًا على المعاناة التي يعاني منها الأقباط في مصر، فكان رده "إنني أويد هذا الإضراب، ولولا مرضي لكنت شاركت فيه بنفسي، ومن حق أي فصيل أن يعبر عن رأيه بالطريقة التي يراها ما دامت سلمية، فالأقباط جزء من الجسد المصري، ولا يجب التعامُل معهم على أنهم شيء مُنفصل عن هذا الجسد إطلاقًا، فأقباط مصر لهم حقوق مشروعة وليسوا بجالية موجودة خارج الجسم المصري، وأطالب الحكومة المصرية بتطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعطي لكافة المواطنين نفس الحقوق، وأطالبها بتطبيق المواطنة المنصوص عليها في الدستور".. وقد نشرت صحيفة "الأقباط متحدون" يومها هذا الكلام المفعم بالوطنية على لسان كاتبنا الراحل.
إن مصر في أمس الحاجة إلى مزيد من هذه الرموز الوطنية المهمومة بقضايا بلادها، وليس أمامي سوى أن أقول لهذا الكاتب المتميز: "أصحاب القضايا الحقيقية لا يموتون أبدًا وستظل ذكراهم محفورة في قلوب الناس والتاريخ".