بقلم : صموئيل عازر دانيال
تعليم المسيح عن الطلاق والتدبير الرعوي
سنعرض أولاً في هذا المقال تعليم المسيح عن الطلاق، وهو تعليم واضح وصريح وليس محتاجاً إلى أي شرح، ولا لأية إضافة عليه. وهذه هي كلمات المسيح كما هي:
1. من إنجيل مرقس 10: 2 – 12: "فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» فَقَالُوا:«مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَق، فَتُطَلَّقُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ، وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، 8وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا عَنْ ذلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي»."
- ويشبهه ما ورد في إنجيل متى 19: 3-9: "وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ:«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». قَالُوا لَهُ:«فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَق فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي»."
2. من إنجيل لوقا 16: 18: "كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقٍَ مِنْ رَجُل يَزْنِي."
- ويشبهه ما ورد في إنجيل متى 5: 32: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي."
- ويشبهه أيضاً ما ورد في الرسالة الأولى إلى كورنثوس: "وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ، فَأُوصِيهِمْ، لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ، أَنْ لاَ تُفَارِقَ الْمَرْأَةُ رَجُلَهَا، وَإِنْ فَارَقَتْهُ، فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ، أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا. وَلاَ يَتْرُكِ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ."
3. ونذكر نصّاَ هاماً من سفر التثنية 24 1 - 4: " «إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ، وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ، وَمَتَى خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ ذَهَبَتْ وَصَارَتْ لِرَجُل آخَرَ، فَإِنْ أَبْغَضَهَا الرَّجُلُ الأَخِيرُ وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ، أَوْ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ الأَخِيرُ الَّذِي اتَّخَذَهَا لَهُ زَوْجَةً، لاَ يَقْدِرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَعُودَ يَأْخُذُهَا لِتَصِيرَ لَهُ زَوْجَةً بَعْدَ أَنْ تَنَجَّسَتْ. لأَنَّ ذلِكَ رِجْسٌ لَدَى الرَّبِّ. فَلاَ تَجْلِبْ خَطِيَّةً عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا."
4. ونذكر نصّاَ هاماً آخر من نبوة ملاخي النبي 2: 16«لأَنَّهُ يَكْرَهُ الطَّلاَقَ، قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ».
ملاحظات على الكلام المقدس الذي فاه به رب المجد
1. يُلاحظ أن المسيح أعاد الزواج إلى أصل الخليقة: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». وبهذا استبعد المسيح أي انفصال أو تفريق بين الزوجين، ولأي سبب.
2. ويلاحَظ أن المسيح لم يذكر في بعض تصريحاته عن الطلاق (( إلا لعلة الزنا )) .
3. يُلاحظ أن المسيح استبعد إعادة زواج المُطلَّق أو المُطلَّقة، لأنه بحسب نص سفر التثنية أنهما يصيران متنجِّسَين إذا تزوج أيهما أو كلاهما مرة أخرى بعد الطلاق.
4. يُلاحَظ أن المسيح لم يُفرِّق بين الطرفين في وَصْم إعادة الزواج بعد الطلاق لأي منهما بالزنا.
5. المسيح يضع هنا - لا نصوصاً قانونية - مثل تلك التي في ناموس موسى التي تبتدئ بكلمة: (( لا ))، بل هو يختط المنهج الجديد الذي يضع المثل الأعلى الذي يختار الإنسان أن يصل إليه بحرية إرادته معتمداً على قوة الروح القدس الذي يسكن ويمكث فيه للأبد: "يَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ... وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يوحنا 14: 15-17)، والمسيح بهذا يسترجع الأساس الذي عليه قامت خلقة الإنسان على صورة الله ومثاله في الطهارة وحرية الإرادة والعقل والتعقُّل، وذلك قبل سقوطه ومفارقة الروح القدس له (كما ورد في سفر التكوين 6: 3 الترجمة السبعينية: "فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَمكث رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ" – قارنها مع: كلمة "يمكث" في العهد الجديد).
6. يلاحظ أن المسيح لم يذكر عقوبات على مُخالفي هذه الوصايا، وليس كما وضع ناموس موسي عقوبات على مُخالفي وصابا الناموس في سفر التثنية وسفر اللاويين.
7. يلاحظ أن إسثناء الزنا في الإستـثناء (( إلا بسبب الزنا )) هو الزتا الفعلي في ذات الفعل، كما كان مفهوماً لدى اليهود قديماً – ومنهم المسيح.
الإجتهاد البشري في تفسير كلمات الوحي الإلهي
عرضنا تعليم وكلام المسيح بالنص الحرفي من الإنجيل. أما التعبيرات المُستحدثة التي وردت في القانون الجديد فهي لم ترد في الإنجيل على فم المسيح مثل: الزنا الحكمي
وما ورد عن حالات إثبات الزنا، والطرف البريء الذي يجوز له الزواج الثاني، والطرف الزنا المُذنب الذي لا يجوز له الزواج الثاني كعقوبة أبدية، وبطلان الزواج، وتصريح الزواج الثاني، وغير ذلك من مصطلحات وإجراءات، كل هذه لم ترد في الوحي الإلهي، بل هي تدخل تحت بند "الاجتهاد البشري". ويجب التعامل معها ووصفها كما هي في واقعها البشري، والتي لا تُعتبر مخالفتها أو الحكم ضدها بأي حال أنها ضد الإنجيل والكتاب المقدس، ذلك لأنها لم ترد أصلاً على فم المسيح.
- والسؤال الآن: ما مكان هذا "الاجتهاد البشري" في تدبير الكنيسة؟ هل هو خطأ أم زيغان عن كلام المسيح؟ وهل يغضب عليه المسيح ويرفضه؟
- الجواب: يجب أولاً أن نعترف بأنه اجتهاد بشري، ولا ننسبه زوراً إلى الإنجيل والكتاب المقدس، بل نعترف به أنه من اجتهاد البشر حيث لم يرد في الإنجيل أو الكتاب المقدس. وبهذا الاعتراف بالواقع البشري نستطيع أن نتقدم للسؤال التالي:
- فإذا تساءلنا: "وأين المسيح هنا وما رأيه في هذا؟"
- فأول جواب على هذا السؤال هو أن المسيح لم يضع ناموسه الجديد في شكل أوامر ونواهٍٍ وعقوبات مثل ناموس موسى الذي كان يحوي هذه البنود الثلاثة، والذي صدر في عهد العبودية (كما يصفه القديس بولس في رسالة غلاطية 4: 24: "الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ، الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ")، بل أسس ناموسه الجديد على إعلانه عن محبة الله للبشر، وباتخاذه البشر – لا عبيداً بعد – بل أبناءً له، وهذه هي حرية مجد أبناء الله التي استعادها الله لهم كمخلوقين على صورة الله ومثاله، والتي بها يحبهم الله وهم يحبونه: "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا... لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ" (يوحنا 15: 15).
أساس الاجتهاد البشري في تدبير رعاية أبناء الله في الكنيسة:
- وبناءً على الناموس الجديد وبناءً على عهد حرية أبناء الله، أعطى المسيح أيضاً للبشر هذا الحق الجديد الذي لم يكن موجوداً في العهد القديم، وذلك بقوله: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»" (متى 18: 18-20). وهذا هو الأساس الذي وضعه المسيح للكنيسة لتكمِّل مسيرتها في تدبير رعاية المؤمنين أبناء وأحباء الله.
- وبناءً على هذا الحق الجديد الذي منحه الله للبشر في خلقتهم الجديدة، أسس المسيح كنيسته لتكون هي موضع الشركة والمشاركة والاتفاق بين أعضائها وهم مجتمعون، وذلك بحسب المبدأ الذي أرساه المسيح لأول مرة: "إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"، ثم اتفاقهم ووحدتهم وهم متفقون مع المسيح المُعتبر في تقليد الكنيسة أنه الأسقف الكبير فوق الأساقفة، كما تقول الدسقولية: [والواجب عليكم أيها الأساقفة أن تكونوا متعاهدين (أي مسئولين عن ومفتقدين ومهتمين بأمر) الشعب لأن أسقفكم أنتم أيضاً هو المسيح. فكونوا أيضاً أساقفة صالحين لشعب الله، ليبارك (المسيح) عليكم…] الدسقولية - الفصلان الثالث والرابع
- وبناءً عليه، صار لأعضاء الكنيسة المُعمَّدين والممسوحين بمسحة الروح القدس حق ممارسة هذا "الاجتهاد البشري" لتدبير أبناء وأحباء الله، ولكن على أساس أولاً الإعتراف واحترام أسقفية ورئاسة المسيح على الأساقفة وعموم الإكليروس بروح الخضوع والمخافة والوقار بمُقتضى الحضور الدائم للمسيح وسط الكنيسة. فالمسيح ليس غائباً أبداً عن الكنيسة، فهو الرأس والرئيس للكنيسة. وسلوك الإكليروس بخوف ورعدة - وهم المُعتبرون خُدام كهنوت المسيح ووكلاء أسرار الله - تجاه المسيح الحاضر بمجده ومجد أبيه والروح القدس في الكنيسة بصدق وإخلاص، سيكون له أثره الفعَّال في أفراد الشعب المؤمنين، إذ سيكون لهم نفس السلوك والتقوى والمخافة تجاه المسيح سواء في حياتهم الشخصية أو العائلية، لأن القدوة بالعمل في الكنيسة تفوق وتتقدم على التعليم: "وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (إنجيل متى 5: 19).
- ومن هنا ستكون الرعاية والافتقاد والتعاهد للشعب (كما أوصى الرسل الأساقفة) هي العمل الأول والأهم في عمل الإكليروس. ومن أهم أعمال الرعاية والافتقاد: عمل المصالحة بين المتخاصمين ومن بينهم الأزواج والزوجات. فمشاكل الطلاق والزواج الثاني هي رعائية في المقام الأول. إنها ليست قانونية. ولن يحلَّها بل سيزيدها تعقيداً القانون الجديد إذا ظل الحال على ما هو عليه. والرعاية والافتقاد، يسندهما التعليم الروحي والتربية والتوعية الروحية والسيكولوجية والنفسية للمؤمن منذ معموديته، بالالتزام بمبادئ الإنجيل وتقليد الكنيسة ما يكوِّن شخصية المؤمن الحقيقي بالمسيح.
- وإن غياب أو تأخر أو ضعف أو انحراف غاية وهدف هذين العنصرين: "الرعاية والافتقاد"، وأيضاً "تعاهد المؤمنين بالتعليم والتوجيه الروحي الصحيح"، هو السبب الأول في ظهور أزمة الُمطلَّقين والمُطلَّقات فجأة في أجواء – ليس الكنيسة فقط – بل وفي كل المجتمع المصري أيضاً.
- ثم نأتي إلى مبدأ الاجتهاد البشري الذي قدَّمه المسيح للكنيسة، إذ لابد لأعضاء الكنيسة إكليروساً وشعباً أن يتفقوا معاً على بعض الأمور والإجراءات لمواجهة المشاكل التي تعرض لبعض أو كل أعضائها. ولكن هناك شروطاً وضعها المسيح ليبارك على ما يفعله المؤمنون في اجتهادهم البشري: أن تكون عملية اتخاذ القرارات بروح الشركة والمشاركة والإتفاق، ومن خلال نظام راسخ لاجتماع المشاركين معاً في فحص هذه المشاكل وطريقة الحوار واتخاذ القرارات. ذلك لأن الشركة والمشاركة عنصر هام في معالجة وتدبير شئون الكنيسة عموماً. وفي هذا المنهج لابد أن تنتفي في الكنيسة الروح الانفرادية لأي شخص ما أو لمجموعة أشخاص يكون لهم نفس الاتجاهات، فيستبعدون غيرهم ممن لهم أفكار وآراء مُخالفة. فحضور المسيح وسط الكنيسة كأسقف فوق الأساقفة، يُحتِّم وجود الشركة والمشاركة بين كل – وليس جزء - من أعضاء الكنيسة وبعضهم البعض. وليس كما حدث من أمور مُحزنة في كنيسة كورنثوس آنذاك نتيجة شيوع الروح الفردية لبعض الأشخاص هناك: "وَلكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ، لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ... هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟" (كورنثوس الأولى 1: 10-13)، وهكذا يجب أن تحذر الكنيسة من الروح الانفرادية التي تؤدي إلى عدم اتفاق أعضائها، أو شيوع الانشقاق والخصومات بينهم.
لذلك لابد للمسئولين أن تنفتح قلوبهم لأبناء الكنيسة كلهم، كل مَن عنده كلمة علم يريد بها من وجهة نظره أن يساهم بها في حلِّ المشاكل التي تجابهها الكنيسة. بل إن قوانين الكنيسة توصي المسئولين – ليس فقط ألاَّ يرفضوا مساهمة الآخرين – بل حتَّمت عليهم أيضاً أن يلجأوا إلى غيرهم من قدماء الإكليروس الذين يُعرف عنهم الحكمة وسداد الرأي والعلم بقوانين الكنيسة، ومعهم أيضاً النُخبة من الشعب المُسمِّين بالعلمانيين وعلى الأخص في الأمور التي تمس حياة المؤمنين وسط العالم – سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عائلية أو مشاكل الشباب أو ما أشبه، لأنهم أكثر من اختبروا الحياة العلمانية بمشاكلها ومآسيها، وعندهم رؤية عن المخرج أو المخارج منها. وهنا يجب أن يتحلى الرؤساء بالإتساع ورحابة الصدر وروح التجميع لكافة القُوى والمواهب لمعالجة مشكلة الطلاق معالجة جذرية فعَّالة، لتكون الحلول أقرب إلى الصواب وأبعد ما يكون عن نظرة شخصية منفردة دون مشاركة الآخرين، وذلك حتى يبارك المسيح الذي هو الأسقف الكبير فوق الأساقفة على اجتماعاتهم وتدابيرهم.
إن نجاح أي عمل في الكنيسة يجب أن يكون بشركة ومُشاركة كل – وليس بعض – النُخَب التي في الكنيسة. وما يهدم روح المشاركة والشركة والاتفاق هذه: استبعاد البعض، والاستخفاف بالبعض الآخر، والتشهير ببعض الأشخاص، وتحقير عمل البعض الآخر. إن روح الاستهزاء والطعن في الآخرين واستبعادهم من العمل الجماعي سيكون هو سر فشل وقصور آلة الرعاية والافتقاد وتدبير شئون الكنيسة. ولن ينصلح هذا العيب إلا بتوقف التمركز والتمجيد حول الفرد في الكنيسة. فالحكم في الكنيسة هو لشخص المسيح وحده، والمجد والمديح لا يجب أن يُقدَّم لأحد إلا للمسيح، وصلوات الكنيسة كلها توجِّه المجد والإكرام والتسبيح لشخص المسيح، ولا ينقص سوى أن يُترجم هذا إلى عمل جماعي لا فردي يضم كافة النُخب في الشعب لمناقشة أمور الكنيسة. إن الاعتراف العملي بحضور وبسلطان المسيح الأسقف الكبير فوق الأساقفة "لأن أسقفكم أنتم أيضاً هو المسيح"، و"َهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ" داخل الكنيسة يجب أن يظهر في طريقة الشركة والمشاركة والإتفاق بين الجميع في اتخاذ القرارات وأسلوب التصرف تجاه الأزمات.
هناك قانونان في الكنيسة يحكمان كيفية تدبير رعاية المؤمنين هكذا:
1- (القانون الرسولي رقم 20 من القوانين الثلاثين)
في الشركة: وأن لا يعمل الرئيس ولا المدبِّر في كنيسة الله شيئاً من الأعمال، ولا يتقلب (يتخبط) في أحكام الشعب (أي إصدار الأحكام الجزافية أو المتسرعة أو غير العادلة على أفراد الشعب)، إلا بمشورة أصحابه الذين هم في الكنيسة قبله (أي أعضاء الإكليروس القدامى وذوي الحكمة والمشورة الحسنة)، وأن يكونوا معه (أي عدم الإنعزال عن قدامى الإكليروس وحكمائهم)، وهم القائمون بالصلاة معه (أي أن الشركة معهم تكون في إطار الصلاة)، وما يتفق عليه رأيه ورأيهم جميعاً فيما يقع فيه رضا الله، وصلاح الشعب (أي أن اتفاقهم يكون محكوماً بهذين الشرطين)، وواجب الديانة (أي واجبات وأصول التدبير الكنسي حسب التقليد الكنسي الصحيح)، ولا يكون في حُكْمه إساءة لبعضهم (أي تحريم الإساءة للآخرين بكافة صورها، العلنية منها: كما في الصحف والمطبوعات والأحاديث العامة والخاصة وما شابهها، وغير المباشرة مثل المقاطعة والتجاهل والاستبعاد من مراكز الخدمة والتأثير)، ولا خلاف لهم في تجاوز الحق إلى غيره (أي لا يختلفوا على ما يُقِرُّه الحق الكنسي).]
ويتبع هذا النص الحكم على من يخالف هذه الشروط: [فمن هذه صفته، فلْـيُـفرَزْ (أي فليُـنَحَّى)].
2- قانون يحتم مشورة علماء الكهنة وأراخنة الشعب في الحِل والربط،
وقد سجل كتاب المجموع الصفوي للشيخ الصفي بن العسال (من علماء الكنيسة القبطية في القرن الثالث عشر، وهو من أبرز مراجع القانون الكنسي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية) هذا القانون الهام هكذا:
- أن يشاور (الرئيسُ) في ما يحلُّه ويربطه، العلماءََ الأبرارََ من كهنته وشعبه الأراخنة والقريبين من الحكم، على انفراد واجتماع. وبعد الإتفاق فيه، يعمل مكتوباً (قراراً) يذكر فيه السبب الداعي إليه ووجه الفائدة به، وحصول الموافقة من الكهنة والأراخنة عليه. وإن كان أمر كبير أو أمور كثيرة، فينبغي أن يجمع لأجله الأساقفة ووجوه الكهنة والأراخنة ومن عنده علم وورع، وتؤخذ خطوطهم (أي توقيعاتهم) في المكتوب، وتُنقل منه نسخ، وتُقرأ في جميع الكنائس، على الخاص والعام، في المدن والقرى. - (المجموع الصفوي لإبن العسال، صفحة423، عن كتاب: التدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة).
إن هذين القانونين وغيرهما ينبعان من مفهوم طبيعة الكنيسة لدى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وهي أن الكنيسة شركة ومشاركة وإتفاق بين أعضاء الكنيسة إكليروساً وشعباً. وبهذين القانونين اجتازت الكنيسة القبطية على مدى تاريخها الطويل طريقاً طويلاً تحفُّ به إضطهادات وعثرات وأخطاء وانحرافات شتى، لكنها عبرتها بسلام وسلَّمت لنا المسيحية النقية في القرن العشرين وما بعده. ذلك أن التماس المشورة وكثرة المشيرين الصالحين يحفظان بقدر الإمكان المسئولين من اتخاذ قرارات معيبة خاطئة ومُهلكة كما هو مكتوب: "بغير تدبير يسقط الشعب، وأما الخلاص فبكثرة المشيرين" (أمثال 11: 14). وتاريخ الكنيسة الطويل يسجل الحالات الإيجابية والسلبية على حد سواء التي اتُّبِعت والتي لم يُتَّبع فيها هذان القانونان. وليس هنا مجال لتعداد هذه الحالات
ومشاكل الأسرة القبطية التي تجابهها الكنيسة في هذا العصر جديرة بتفعيل هذين القانونين لحسن وصحة معالجة هذه المشاكل. علماً بأن المعالجة الرعوية لهذه المشاكل بمشاركة نُخَب الكنيسة كلها، يجب أن تسبق المعالجة القانونية بإصدار قانون قاصر معيب، مليء بالثغرات والتناقضات، ما سيثير المشاكل ويؤدي إلى رفع المزيد من القضايا في المحاكم أكثر من القانون القديم المغضوب عليه مئات المرات.
ومرة أخرى: ماذا سيكون مصير الكنيسة، ومصير أولادنا وبناتنا لو صدر هذا القانون؟
للبحث بقيـــــة