بقلم: هند مختار
جميعنا شاهد فيلم "صاحب الجلالة" الذي أدى فيه "فريد شوقي" دور البطولة، وكان معه "فؤاد المهندس" وآخرين، وفيه انتحل الشيّال "حسن الونش" شخصية "مارنجوس الأول" ملك "بورنجا"، حماية له من المؤامرات التي تهدف لاغتياله، ونذكر "فؤاد المهندس" الذي قام بدور "عسكراني"؛ سكرتير الملك.
أتذكر في هذا الفيلم تحديدًا مشهد اللقاء الصحفي للحاكم في الفندق، وكان "حسن" يمثل دور الحاكم، وسأله الصحفي: هل أنتم دولة شرقية أم غربية؟؟ أشار له "عسكراني" أن يقول الإثنان؛ شرقية وغربية.. فلم يفهم "حسن الشيال" المسكين في حيل السياسة وأجاب على قد فهمه: إحنا دولة ملخبطة..
وكم كان هذا المشهد صادقـًا لأقصى الحدود؛ فقد تنبأ بما ستصبح عليه مصر في المستقبل المظلم، الذي هو حاضرنا.
في القرن العشرين وحتى قيام الثورة كان المجتمع المصري مجتمع "كوزومبولوتي"، والمقصود أنه مجتمع تعيش فيه أعراق متعددة، الجريج والأرمن والإيطاليين والفرنساويين والإنجليز وغيرهم، وكان مجتمع الخواجات مع أنه الأقل في العدد، إلا أنه كان هو المؤثر في المصريين؛ فقد اكتسب الشعب الكثير من عاداته، وأصبحت العادات ما بين عادات قديمة موروثة وعادات مكتسبة من المجتمع المتعدد..
وكان المجتمع المصري في ذلك الوقت مجتمع رائع، وكان به تسامح غير طبيعي واحترام للآخر، قبل أن تتدوال كلمة الآخر تلك في أي مكان..
فكانت الطوائف الأجنبية تتمتع بحرية دينية، وكان لكل طائفة دور العبادة الخاصة بها، وكان اليهود كطائفة يمارسون حياتهم وطقوسهم الدينية بشكل طبيعي..
كانت مصر دولة مدنية يمارس فيها الجميع حقوق المواطنة، بعيدًا عن فكرة أننا كنا محتلين من قبل الإنجليز؛ فأنا أتكلم عن الناس العاديين البسطاء..
كنت تجد أي عمارة بالقاهرة بها الموظف المصري إبن الطبقة المتوسطة -مسلم أو مسيحي- متجاوران، ومعهم الجريجي والإيطالي في نفس العمارة، الجميع يمارس نفس طوس الحياة، والكل يهش ويبش في وجه الآخر على بسطات السلم، وعلى المقهى، وفي وسائل المواصلات..
والجارات كنّ صديقات وأخوات، وكنّ "ستر وغطا" على بعضهن، وما عند واحدة كان للأخريات نصيب فيه، وفي الشدائد الكل في واحد..
حتى المجتمع الريفي.. كان به صاحب البقالة اليوناني، صاحب الحانة، وكان به أيضًا تاجر "المانيفاتورة" اليهودي، وكان الكل متعايشـًا في أمان..
أما الآن.. وفي خلال ثلاتين عامـًا؛ تخلينا عن كل مظاهر المواطنة وعدنا للخلف، لا للأسف لم نعد للخلف؛ فالخلف كان رائعـًا وإنما نحن في حالة لخبطة حقيقية..
الكل يلقي بالتهم على "الوهابية"؛ وكيف أنها أفسدت مجتمعنا المصري ومجتمعات أخرى، ولكن قبل إلقاء التهمة على الرغم من صحتها، ما الذي جعل الأرض خصبة لاستيعاب تلك الأفكار؟؟
ما الذي جعل من السيدة التي كانت ترتدي ملابسها من ذوق "ماريكا" الخياطة الجريجية، تعزل نفسها وبناتها في خيمة سوداء؟؟
ما لذي جعل الرجل الذي كان يصطحب حبيبته أوخطيبته للسينما في أمسيات الخريف، يحرم الدنيا على نفسه وعلى أولاده؟؟
كيف أنجب جيل اعتاد على الانفتاح؟ جيلاً منغلقـًا وانغلق معه، وكيف أصبحنا مجتمعـًا ملخبطـًا يعاني من تزمت ديني على كل المستويات؟ بعدما كنا مجتمعـًا مدنيـًا يمارس المواطنة التي أصبحنا نطالب بها مع أنها كانت موجودة؟!!
السؤال.. هل كنا نمارس مظاهر المدنية والحرية والمواطنة وفي النفس شيئ؟؟ وحينما جاءت الأفكار السلفية خرج هذا الشيئ للوجود؟؟
أم أننا شعب طيب نصدق كل ما يُقال لنا حينما يجيء من الخارج؟ فقديمـًا كانت كلمة "ده جاي من أوروبا" لها مفعول السحر، أما الآن.. فكلمة "ده جاي من الخليج" لها نفس المفعول!!
أم نحن بلا هوية حقيقية ونحاول التشبث بهوية الآخرين؟
إننا نعاني من اللخبطة في كل شيئ، اللخبطة السياسية، واللخبطة الاجتماعية، واللخبطة الاقتصادية!
قالها "حسن الونش" من خمسين سنة؛ "إحنا بلد ملخبطة".