بقلم : صموئيل عازر دانيال
مبادئ هامة من الإنجيل وتقليد الكنيسة
ملخص المقال:
1. معنى كلمة "الزنا" ومفهومها في قانون العقوبات المصري. وخطورة استخدامها لاتهام آخرين بها في غير موضعه. ومعنى كلمة "الزواج المدني".
2. معنى ومضمون سر الزيجة المقدس، وعلاقته بالزواج التشريعي أو المدني.
3. أسباب الطلاق عند اليهود التي رفضها المسيح حين سأله الفريسيون: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟».
4. الاجتهاد البشري في تدبير رعاية المُطلَّقين والمُطلَّقات. شرعيته وشروطه. ودور علماء الشعب في إقرار هذا التدبير بحسب تقليد الكنيسة.
5. هل يجوز للكنيسة أن تعاقب الخطاة؟ وهل من حق الكنيسة أن تمنع نعمة الله عن أحد منعاً أبدياً؟ وما هي المرة الوحيدة التي وردت في الإنجيل أن المسيح الوديع الرحيم يعاقب فيها ذلك العبد الشرير بعقوبة أبدية شديدة؟
1. معنى كلمة "الزنا" ومفهومها في قانون العقوبات المصري. وخطورة استخدامها لاتهام آخرين بها في غير موضعه.
هناك كلمات وآراء تُعلَن وتثبت في أذهان الناس عن غير معرفة مُدقِّقة، مما يكون لها آثار سيئة على أفهام الناس وسُمعة اكنيستنا العريقة.
- وأولى هذه الكلمات كلمة "الزنا" التي تكررت آلاف المرات في الكتابات والأحاديث والفضائيات وكأن كل شيء قد أصبح "زنا". وفعل الزنا في عُرف الأمم والشعوب منذ بدء البشرية هو جريمة يعاقب عليها القانون أيا كان هذا القانون عُرفياً في القبائل قديماً أو تشريعياً في الدول الحديثة. وتعريف "الزنا" في قانون العقوبات المصري المستمد من القانون الفرنسي والمستمد بدوره من القانون الروماني هو كما ورد في المواد من رقم 273 - 377 من قانون العقوبات المصري: لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى (أمام القضاء) يرفعها زوجها، وكذلك زنا الزوج يكون بموجب دعوى ترفعها زوجته عليه. ويتم إثبات الجريمة إما بالتلبُّس بالفعل، أو بالاعتراف بالجريمة، أو الوجود في منـزل الزوجية، أو وجود مكاتيب أو أوراق مكتوبة. والقاضي هو الذي يحكم بالعقوبة الواردة في القانون.
ومنذ البدء نظمت القبائل والشعوب والأمم والدول على مدى التاريخ قوانين ونُظُماً لحفظ وصَوْن كرامة وخصوصية الزواج، ووضعت تشريعات لمُعاقبة جريمة الزنا أخطر عدو لسلامة وخصوصية الحياة الزوجية. ويحدد قانون العقوبات المصري غرض العقاب على جريمة الزنا أنه "ليس فقط اختلاط الأنساب بل صيانة حُرمة الزواج" (كتاب التعليق على قانون العقوبات للمستشار مصطفى مجدي هرجه، نادي القاهرة، 1992، صفحة 1090). وإثبات هذه الجريمة تقوم بها أجهزة الأمن والنيابة العامة ويحسم الأمر فيها الهيئة القضائية، ويستوي في هذا البلاد المتقدمة وأيضاً القبائل والشعوب البدائية كل ة بطريقته، لأن الزنا مُعتبرَ أنه تهديد لخصوصية الحياة البشرية للفرد مهما كانت صفته مُتحضِّراً كان أو بدائياً. وقد تنوعت عقوبات الزنا من شريعة إلى شريعة ومن شعب إلى شعب، ولكن كل الأمم تجُرِّم وتؤثمِّ جريمة الزنا في قوانينها.
لذلك من الخطورة والعيب الكبير أن يطلق المسئولون في الكنيسة الاتهام بجريمة "الزنا" في غير محلِّه على من ليسوا أقباطاً أرثوذكساً، أو نربطها بعدم ممارسة طقس ديني محدد لدى الطوائف الأخرى، أو حتى بممارسة إجراء قانوني مدني لابد من إجرائه (مثل الزواج المدني) لانتظام شئون الناس الشرعية حسب القوانين المرعية في البلاد، وإلا فكأننا نوصم مليارات الناس بجريمة خطيرة منكرة مثل هذه لم يرتكبوها.
الكنيسة ليست الجهة التي توجِّه الاتهام بجريمة أو تُثبته أو تُحقق فيه أو تحكم فيه أو تُنفِّذ حكماً فيه، لأن هذا من اختصاص كلا السلطة القضائية والسلطة التنفيذية في البلاد، وإلا فإن التداخل في هذا الأمر من طرف الكنيسة يُدخل الكنيسة تحت سلطة القضاء إذا اشتكى أحد الكنيسة للقضاء العالي لإحساسه بظلم أو قهر من أحكامها.
- وثاني هذه الكلمات هو الزواج المدني أو الزواج التشريعي الذي هو إجراء قانوني سائد في كل بلاد العالم، ومنذ الأجيال القديمة، وفي كل شعوب العالم مهما تنوعت حضارتها أو ثقافتها أو بدائيتها. ذلك لأن الزواج هو عملية بشرية منذ خِلقة العالم وأتت بأمر إلهي مباشر: «فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: " أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ "» (سفر التكوين 1: 27، 28).
وهذا الإجراء القانوني كان يُجريه الزوجان قديماً منذ بداية المسيحية في قاعات المحكمة الرومانية، ثم يتوجهون فور ذلك إلى الكنيسة ليبارك الأسقف زواجهما في الكنيسة أمام مذبح الله، كما يرد ذلك في رسائل القديس أغناطيوس ثاني أسقف على أنطاكية بسوريا في القرن الثاني الميلادي (؟ - 107م).
ويرجع الاهتمام بتشريعات الزواج المدنية إلى أن الزواج لابد من تسجيله قانونياً لدى السلطة الحاكمة، لأنه سيترتب على هذا التسجيل شرعية إجراءات أخرى ضرورية للأسرة، مثل تحديد نَسَب الأبناء إلى والدَيْن متزوجَيْن زواجاً قانونياً ، وبالتالي إلى تحديد المواريث وأشخاص الوَرَثة إذا مات أحد الوالدَيْن أو كليهما، وفي العصور الحديثة لابد من توافر وثائق الزواج القانوني لاستخراج بطاقات الهوية الشخصية، وشهادات الميلاد للمولودين منهما، وجوازات السفر للخارج، والهجرة للبلاد الخارجية، والقبول بمبيت رجل وزوجته معاً في فندق وغير ذلك من الجهات التي تتطلب الوثائق الحكومية للزواج.
2. معنى ومضمون سر الزيجة وعلاقته بالزواج التشريعي أو المدني:
الحياة البشرية بكل ما فيها من أنشطة معروف أنها تنتهي بالموت كحكم عام لا يفلت منه إنسان. ولكن المسيح حينما أتى في كمال الزمان، أتى ليمنح الإنسان الحياة الأبدية. وهكذا قال أمام قبر لعازر: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَد» (يوحنا 11: 25، 26). ثم أقام لعازر من الموت ليبين صدق رسالته والقوة الجديدة التي أدخلها للبشرية، التي هي إعطاء الحياة الأبدية للبشر، حتى ولو ماتوا، فسيقومون إلى قيامة الحياة الأبدية. وقد سلَّم المسيح هذه النعمة للكنيسة لكي تبشِّر بها وتقدِّم أنشطة الحياة البشرية كقربان لله بالشكر، فيبارك الله عليها، وذلك من أول الولادة، إلى الأكل والشرب، إلى الشفاء من المرض، إلى الاستحمام، إلى الزواج، وذلك من خلال الأسرار الكنسية التي يمارسها الإنسان فتتحوِّل هذه الأنشطة والمباشرات البشرية من خلال السر الكنسي من كونها ممارسات مآلها بالإنسان في النهاية إلى الموت، تتحوَّل إلى قوة باطنية داخل الإنسان تؤهله وتَهَبَه للحياة الأبدية. فسر المعمودية هو بمثابة حميم أو استحمام (الماء في الحياة البشرية هو للتطهير، وأيضاً هو ولادة الحياة من الماء)، أما في السر الكنسي فهو لمغفرة الخطايا والتطهير من الحياة الدنسة السابقة، وأيضاً للميلاد الثاني والخِلقة الجديدة للحياة الأبدية، وكذلك أيضاً سر المسحة المقدسة بزيت الميرون الذي يسبق تجهيزه كزيت عادي (كان يُستخدم قديماً للشفاء ولمسح الملوك وتتويجهم)، ولكن بتقديمه لله بالصلاة عليه، يصير حاملاً للروح القدس. فبرشمه على كل أعضاء الجسم فيه، يمتلئ المولود جديداً من الروح القدس، الذي هو نسمة الحياة الأبدية تدخل إلى داخل كيانه فيصير مسكناً وهيكلاً لله وللروح القدس، وأيضاً سر الإفخارستيا الذي هو تقديم خبز عادي (مثل الخبز الذي يأكله سائر الناس ولكنهم يموتون في النهاية) وشرب عصير الكرمة العادي، اللذين قد سبق إعدادهما وتقديمهما إلى الله على المذبح، فيتقدَّسان باستدعاء وحلول الروح القدس عليهما، فيصيران طعاماً وارتواءً للحياة الأبدية. وغير ذلك من سائر مظاهر الحياة البشرية التي مآلها بالإنسان إلى الموت، ولكن بتقديسهما بحلول الروح القدس يرجعان إلينا، لنأكلهما ونشربهما، فننال مغفرة خطايانا والحياة الأبدية لكل من يتناول منهما، وهكذا ينال الإنسان بهذا السر قوة الحياة الأبدية لهذه المباشرة البشرية أي الأكل والشرب. وفي كل هذه الأسرار يأتي النشاط البشري أولاً (الماء العادي، الزيت الساذج، الخبز العادي وعصير الكرمة العادي، والزواج الطبيعي المدني الذي لابد أن يُجريه الكاهن أولاً قبل إجراء السر الكنسي) وغيرها من مواد السر.
فإذا أتينا إلى الزواج الذي هو من أهم المباشرات البشرية للإنسان والتي تحفظ النوع الإنساني، فالإنسانان المتزوجان الزواج الطبيعي أو الزواج التشريعي المدني الذي يُجريه الكاهن على سجلات مصلحة الشهر العقاري، كمُوَثِّق عقود للزواج المدني، بعد ذلك يقتادهما الكاهن إلى الكنيسة ليقفا أمام مذبح الله ويقدِّمان اتحاد نيتهما لتقديم زواجهما لله، فيضع إكليل الروح القدس على هذا الزواج الطبيعي المدني الذي أجراه الكاهن حالاً قبل دقائق معدودات ، ليصير الزواج الذي كان مآله بالإنسان إلى الموت، زواجاً ملكوتياً للحياة الأبدية، وليس للموت مثل باقي الأنشطة البشرية، بل زواجاً للملكوت الأبدي للحياة الأبدية، وصفه رب المجد هكذا: «لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ» (متى 22: 30). وهكذا يصير زواجهما زواجاً يحمل طبيعة أخرى تتوافق مع طبيعة جسد القيامة الجديد الذي سينالانه في الدهر الآتي. أي مجد وجمال روحاني هذا الزواج الذي سيبدأ بشرياً هنا على الأرض، ثم بسرِّ الزيجة المقدسة سيكمل ويخلد ويتجلى في السماء ليصير الاثنان كملائكة الله في السماء!!
(يتبع البنود الباقية في بقية أجزاء البحث القادمة)