بقلم: د. ماجدة الغضبان
النقش الأول
قبل السياب
ما كان المطر يعني شيئًا،
ولا جيكور،
كانت ملكة المدائن.
ولا بويب كان يجري،
دون توقف..
بين الكفوف التي احتضنت
بحنوٍّ بالغ
قصيدة المطر!

***
اعلمُ أنكِ خلف جدار،
أو في قلب الصخرة،
أو مجرى النهر..
أعلمُ أنكِ جذور الشجرة،
وحلو الثمرِ،
وتحدّي الظل،
لهجيرة صيف.
أعلمُ إني حيث أسير،
أكون بين يديكِ.
وأنزعُ من وجهكِ بقايا قشور،
وأكشف عن سحركِ
وأتلاشى فيكِ كشعاع من نور!

***
مثقلٌ بالحلي،
ذلك التمثال،
ضجرٌ من الوقوف،
وسط طواف لا ينتهي،
يتمنى لو أن عينيه،
ترمشان للحظة..
أو تتحركُ يداه إلى الأعلى،
أو يرتفعُ صوته،
بين لغط العابدين:
اصمتوا أيها الجهلة!

***
في القاع..
في جوف البئر،
تلمعُ وحيدة،
عوراء،
أهل القرية،
يدركون وجودها..
غير إنهم يتجنبون الحديث
عن دمعها السخي.
يحاولون أن ينسوا
ـ عبثًاـ
إنهم يشربون حزنها،
قطرة بعد أخرى..

***
هل تختفي الموسيقى،
حين تصمت آلات العزف، 
وينتهي الحفل؟
 
ما الذي ينقر نافذتي إذن؟
ويجعلني أهيم،
حين تغادر المدينة طرقاتها،
ويعشى الحراس،
ويفقد الملك عرشه،
وتتساقط النياشين والأوسمة،
وتتسابق الأسمال،
بعيدًا عن الأجساد العارية،
خلف جيش من حروف الموسيقى،
المبعثرة كالنجوم،
المنتظمة كمسير المؤمنين،
المدركين..
إن كلَّ الحياة
ليست في بعض هذه المدينة..

***
الشِّباكُ في البحر،
تحتالُ بصمتٍ
على الأسماك اللامعة،
تحتال بتروٍّ،
على الصياد
الذي عاد ببعض السمك،
ونسي في القارب،
يومًا مضنيًا آخر
لن يعود إليه أبدًا..

***
مثلما أحصي
النجوم والكواكب،
هي أيضًا تحصي خطواتي،
مسيري، وتوقفي عند واحة نخيل،
تجلو لي نهارًا
سبيل البشر،
وترفعني ليلاً
لأرى النجوم والكواكب
ذرات رمل،
في كثيب صغير..

***
أين النصف الآخر
من وجهكِ
أيتها اللؤلؤة الخبيئة؟
أين نصفك الذكري؟
أين ظلك حين ترعبك الشمس
بتلألئها؟
حين تصبحين وحيدة؟
قرطَ  أذنٍ
تستبيحها الأصوات
بلا رحمة؟

***
جالسة أنا
على منحدر الزمن،
ارتقُ رحلتي
تقطر من متاعي
بداهة الأشياء،
وعطر الصمت الجليل.
بعض الأصوات عَلِقت،
ـ ربماـ
على الشجيرات الصغيرة،
والصخور الغائبة عن وعي الطريق،
شيء من الأمس لمع
على كف النهر،
شَعر الصبيّة الحريري
رفَّ كراية
على شجرة الشوك المتباهية
بلونه الذهبي..

كأن المكان يضجّ بأهله،
بدبيب لا ينتهي،
مستمتعًا بلذة التكرار،
ولون الضياع،
كأن في المكان
رزمة أحزان،
ضمّتني إليها،
وامتزجت بدمي،
وارتعشت معي
حتى ضباب الكهولة ـ
يرفعنا بطيشٍ ونشوة
عُباب زمنٍ بلا ملامح!

***
في هذا الليل،
بعض من ظلام قلبي..
وفي نجومه،
بعض من بريق ابتسامة
أغوتني يومًا
لأحصد حقلاً من الضحكات،
وفي غموضه
كلُّ ما تسلسل بعدها
من انهُر تبحث عن محطة ليل
واحدة!

***
الإنتظار يعني أحيانًا
أن تُوصدَ الباب
بوجه الطريق،
أن تُزيلَ الصخورَ المنتصبة
أمام جحافل التجاعيد..
أن تعتادَ ظمأ المداد،
وعواءَ الكلمات الغرثى،
وتكوّر السطور حول نشيجها،
خلف الأسوار المتتالية
لمعبدك الحصين!

***
هل اكتفيتُ بتوغلي
في الشِّعاب المنيعة؟
 هل كلَّتْ عيناي
وهي تنظر إلى ما بعد الجبل،
ما بين كتفي الضفاف،
ما وراء امتداد البحر،
ما يلي تمنّع الصحراء
وخُيَلاء المدن؟

هل اكتفيتُ بعد ترحال طويل
بصرّة ضئيلة،
أضمُّها بكلِّ الشوق
إلى صدري؛
ليفوحَ عطرُ امرأة،
وتتهدلُ خصلةُ شعر،
وتفرُّ بذرةُ حبٍّ ضوئية
تغادر كفي،
تطير بعيدًا
كعصفور ذهبي؟

***
النقش الأخير
اللحظة التي بدآ فيها الحب
من بين أغصان شجرة التوت،
هي اللحظة التي لن تحضر موتي،
ولن تكفن جسدي
ولن تُدفن في قبري؛
لكنها ستتوارى بين أغصان أيار،
تواصل إطلالتها الحانية...
على القلوب المغرمة...
بمفاتن شجرة التوت!