فى الفكر والتجربة الإسلامية نلاحظ أن المدارس الفكرية والكلامية أو الفرق نشأت، معظمها، حول قضية أو مشروع سياسى، وربما بسبب خلاف سياسى، وهكذا نشأت الشيعة والتشيع إثر مطالبة فريق من المسلمين بحق على بن أبى طالب بالخلافة، وقول بعضهم إنه كان الأحق بها بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وظهر فكر الخوارج على خلفية اعتراض نفر من المسلمين على شيعة على وفريق معاوية وعمرو بن العاص، ولما اشتد معاوية فى المطالبة بدم عثمان بن عفان وتحميل على بن أبى طالب مسؤولية ذلك ظهرت فرقة «المرجئة» أى إرجاء الحساب والعقاب إلى يوم الدين، ويتولاه الله سبحانه وتعالى، وتتجنب الأمة هذا الصراع الدموى.
وذاع فكر «المعتزلة» فى ركاب النزاع بين الأمين والمأمون على الخلافة، أى السلطة.. وكانت كل فرقة تحاول البحث عن إطار أو غطاء نظرى وعقائدى للموقف السياسى، الذى اتخذته وتدافع عنه.. وفى ذلك المناخ ظهر «التصوف» تعبيراً عن الزاهدين والمترفعين أو الراغبين فى الابتعاد عن كل الصراعات والمعارك السياسية، ومن ثم المذهبية والكلامية.
كان ذلك فى زمن بناء الثقافة والحضارة الإسلامية، حيث تتمدد المواقف الكبرى، لكن بعد استقرار الحضارة الإسلامية وبناء الدولة واتساع رقعتها وازدياد نفوذها وهيبتها، استقرت الأمور وتحددت المواقف الفكرية والمذهبية.
فى زمن الضعف وتعرض الدولة الإسلامية للتهديد وخطر الغزو الخارجى ظهرت رموز وفرق التصوف لمواجهة العدوان الخارجى، حدث شىء من هذا أيام الجهاد ضد الصليبيين، وحين غزا سليم الأول مصر وجدنا الشيخ أبوالسعود الجارحى، وكان قطباً صوفياً رفيعاً، يحمس الناس للمقاومة وللدفاع عن البلاد، وكان مصدر قوة، وحشد المقاتلين مع السلطان العادل «طومان باى».
والحقيقة أن عدداً من رجال التصوف تصدوا كذلك لاستبداد الحكام وطغيان السلاطين فى مختلف الفترات، ولما ظهر الاحتلال الأوروبى فى العصر الحديث وجدنا رجال التصوف ومدارسه يتزعمون المقاومة ومجاهدة المحتل. تأمل تجربة الأمير عبدالقادر فى الجزائر ومقاومته الغزو ثم الاحتلال الفرنسى، وفى ليبيا فعلت السنوسية الشىء نفسه، فقد قاومت الاحتلال الإيطالى للبلاد، وهكذا كانت «المهدية» فى السودان، كان سعى المهدية إلى طرد الإنجليز من السودان والزحف على مصر لطرد الاحتلال البريطانى.. هكذا كان دور الطرق والفرق، كانت الرؤيا واضحة لدى القائمين عليها، وهى أن الخطر من الخارج، ويجب التصدى له ومجاهدته.
فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر يحدث تحول نوعى فى التيارات الفكرية والمذهبية بالعالم الإسلامى، حيث ظهرت حركات أو جماعات يرى أصحابها أن المشكلة فى العالم الإسلامى لا تتمثل فى الخطر الخارجى والاحتلال الأجنبى، لكنها تكمن فى المقام الأول فى المسلمين أنفسهم أو الإسلام ذاته، نلمس ذلك بوضوح فى الوهابية وجماعة محمد بن عبدالوهاب، الذى ذهب إلى أن المسلمين بحاجة إلى أن يعيدوا فهم عقيدة التوحيد من جديد، وأنهم داخلهم الشرك بالله وابتعدوا عن السلوك والقيم الإسلامية.
غير الوهابية ظهرت «البابية» و«القاديانية»، وكل منهما رأت المشكلة فى الإسلام ذاته، لذا أدخلتا عليه ما لم يعرف به، وكونتا ديانتين جديدتين.. وهذا ما دفع عدداً من الباحثين إلى القول إن المخابرات البريطانية لعبت دوراً فى دعم هذه الفرق والجماعات الجديدة. أحمد أمين يقطع بأن «البابية»، ومن بعدها «البهائية»، صناعة إنجليزية تماماً، لأنها تسقط مبدأ «الجهاد» فى الإسلام، الشىء نفسه يقال عن «القاديانية».
وخصوم «الوهابية» وزعيمها محمد بن عبدالوهاب يقولون إن ضابطاً بالمخابرات البريطانية التقى محمد بن عبدالوهاب زمن دراسة الأخير فى «البصرة»، وكان ذلك الضابط قد تنكر على أنه مسلم من المناطق الآسيوية.. وهناك كتاب مترجم فيه مذكرات ذلك الضابط وحكايته المزعومة عن محمد بن عبدالوهاب. الحديث عن الاختراق الأجنبى (المخابراتى) لهذه الجماعات متسع، وفيه أقوال وآراء عديدة، متباينة، وبغض النظر عن هذا التباين، فنحن بإزاء جماعات أو مجموعات ترى أن أزمة المسلمين ليست فى العدوان والاحتلال الأجنبى، بل فى المسلمين أنفسهم أو فى الإسلام ذاته.
وحين ظهر حسن البنا وأسس جماعة الإخوان سنة ١٩٢٨، فإنه من الناحية العملية كان يعمل وفق مدرسة ومفهوم أن الأزمة فى المسلمين أنفسهم، وتتمثل فى ابتعادهم عن طريق الإسلام، ومن ثم وجب عليه أن يعمل على إعادتهم إلى الطريق القويم، ويبذل جهداً لهدايتهم إلى الرشاد والصلاح، أى أنه كان يسير بقصد أو دون قصد وفق المدرسة الوهابية، حيث يتم اختزال الإسلام فى جملة واحدة هى «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».
تخرج حسن البنا فى «دار العلوم» سنة ١٩٢٧، وكان قد التحق بها سنة ١٩٢٣، أى فى أجواء ثورة ١٩١٩ وتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ ثم دستور ١٩٢٣، وكانت الحركة الوطنية المصرية فى ازدهارها ويموج الواقع السياسى بتيارات عديدة وصراعات حقيقية حول الاستقلال وتحقيق الحرية والعدالة للمصريين، وتوفى سعد زغلول سنة تخرجه، ومع ذلك فلا نجد شيئاً من هذا فى سيرته ومسيرته، حتى فى مذكراته لا نجد أصداء ذلك، بل نراه يقول عن تلك الفترة فى مذكرات الدعوة والداعية: «وعقب الحرب الماضية ١٩١٤/ ١٩١٨، وفى هذه الفترة التى قضيتها بالقاهرة، اشتد تيار موجة التحلل فى النفوس وفى الآراء والأفكار باسم التحرر العقلى، ثم فى المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر الشخصى، فكانت موجة إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية، لا يثبت أمامها شىء، تساعد عليها الحوادث والظروف»..
هكذا لم ير حسن البنا أمامه سوى الإلحاد والإباحية، لم تستوقفه ثورة ١٩ وما جرى فيها، والشهداء الذين سقطوا فى الشوارع من المصريين رجالاً ونساء.. مسلمين وأقباطاً.. صعايدة وفلاحين.. فى القاهرة وفى الأقاليم، ولم يلفت انتباهه استقلال مصر، حتى لو كان استقلالاً منقوصاً، الذى استوقفه فى تلك الفترة إسقاط الخلافة العثمانية، وإذا كان رأس الإلحاد أى الكفر والشرك بالله منتشراً،
فهذا يعنى أن المشكلة ليست فى الاحتلال ولا فى الاستبداد والتسلط السياسى ولا فى غياب العدل الاجتماعى، وسيطرة الأجانب على خيرات مصر، المشكلة عنده هى فى الناس المسلمين الذين ابتعدوا، ويبتعدون عن دينهم وإسلامهم، وتصبح مهمته إعادة الناس إلى الإسلام والعقيدة، وردهم إلى الأخلاق الحميدة، ويصبح من الطبيعى أن تسعد سلطة الاحتلال بمثل هذه الأفكار وتساند أصحابها. لا يعنى هذا أن من يقول بهذه الفكرة عميل للاحتلال، لكن الفكرة- عملياً- تدعم الاحتلال وتبقى عليه إذ لا تجعل مقاومته هدفاً من أهدافها، ولذا ليس مستغرباً ما تتحدث عنه الوثائق البريطانية من أن مساعدات بريطانية قدمت لجماعة حسن البنا، منذ تأسيسها سنة ١٩٢٨، وقدمت إليها بعد مقتله.
وحين تكون المشكلة فى المواطنين أو فى المسلمين ذاتهم وليست فى شىء آخر، فإن هذا يعنى الابتعاد عن اتخاذ موقف سياسى واضح ومحدد، وأصحاب هذه المدرسة يكونون- عملياً- مع كل الفرقاء السياسيين وضدهم أيضاً، وهذا يعنى المراوغة السياسية بكل معانى الكلمة، لذا لم يكن غريباً أن نجد حسن البنا يتعاون مع إسماعيل صدقى ثم يهاجمه ويتفق مع النقراشى باشا، ويتلقى منه مصاريف سرية سنة ١٩٤٧ ثم ينقلب عليه، ويدعو لاغتياله وينفذ رجاله اغتياله بالفعل، وهكذا مع كل الأطراف..
إنها المراوغة السياسية بامتياز، ويمكننا القول الانتهازية السياسية، وهى هنا انتهازية مبررة ومغطاة بغطاء دينى، ولا مكان فيها لحديث عن حرية أو ديمقراطية، فالهدف رد الناس (المسلمين) إلى إسلامهم بشتى الطرق والوسائل، بالترهيب وبالترغيب- بالعصا وبالجزرة، وفى مثل هذا السياق لا مكان لكثير من الاعتبارات مثل التعددية والحريات وتداول السلطة، ومن قبل ومن بعد الدولة المدنية.
وفى المراوغة والانتهازية السياسية تفوق «البنا» كثيراً على محمد بن عبدالوهاب، الذى انتهى به الأمر إلى الإخلاص نحو ابن سعود، بينما لم يخلص «البنا» إلا لنفسه.
ومن يقرأ النسخة الأصلية من «مذكرات الدعوة والداعية» لحسن البنا، يتبين ذلك بوضوح، أما النسخة التى بين أيدينا فلا تكشف ذلك لغير المدقق، لأن النسخة التى بين أيدينا صدرت طبعتها الأولى سنة ١٩٤٩، وبعد مقتل البنا، وفى أثناء إعدادها للنشر تم «تنظيفها» أى حذف بعض العبارات منها، التى تحمل مديحاً لعدد من السياسيين ولجلالة الملك فاروق.. وكانت هذه الفصول قد نشرت فى مجلة جماعة الإخوان.
نقلا عن المصري اليوم |