علمتني يا أبي
بقلم: فرانسو باسيلى
في ذكري الأربعين لإنتقال القمص "بولس باسيلي"
- علمتني يا أبي أن الحياة مهما طالت، فهي قصيرة، لا تكفي لتحقيق كل أحلامنا. في سنين حياتك الأربعة والتسعين، حققت انجازات هائلة في مجالات عديدة، وكأنك- كما قال عنك قداسة البابا "شنودة"، مجموعة من الناس في رجل واحد. لكنك أردت أن تحقق أكثر، فلم يكن لديك وقت تضيعه، كانت أيامك طويلة زمنا ومعني، طولاً وعرضاً، ثراء وعمقاً. كانت سنوات عمل وجهاد وخدمة لا تعرف الكلل ولا تضيع لحظة، لأنك كنت تعرف جيدًا أن الحصاد كثير، والفعلة قليلون.
- علمتني يا أبي أن لا أنظر خلفي، ولا ألتفت لمن يهدمون، ولا أنشغل بالقيل والقال، إذ رأيتك دائمًا تسير في خطوات سريعة، واسعة، واثقة، لا تنظر سوى للأمام. كنت -حتي في شبابي- ألهث وأنا أحاول اللحاق بخطواتك في الطريق، كنت تعرف طريقك وتسير فيه بخطي ثابتة لا تعرف التردد أو التلكوء، لم أرك إلا واثقًا متفائلاً؛ لأنك مؤمن أنه إن كان الله معنا فمن علينا؟
- علمتني يا أبي أن نعم "أستطيع كل شيء"، وهو عنوان أحد كتبك الخمسين. وكنت تهديني كل واحد منها بمقدمة بخط يدك، مصحوبة بصلوات من أجل أن يحفظنا الرب.
- علمتني يا أبي أن الصلاة ليست بالكلام وحده، فليس كل من قال يا رب يارب! ولكن الصلاة الأجمل والأجدي هي الصلاة بالأفعال، فرغم أنك أستاذ الوعظ الذي علّم الأجيال من الوعاظ كيف يعظون، فإن العظة الكبري التي تعلمناها منك، هي أن الصلاة أفعال وليست أقوال، فما أسهل أن تتمتم الشفاه، ولكن ما أصعب أن ينهض القلب، وينتفض الجسد، ويكد في النهار، ويسهر في الليل؛ ليحول الأقوال إلي أفعال. فإذا بك يا أبي تحوِّل كل كلمة إلي فعل وإلى إنجاز هائل، فتؤسس منذ مطلع شبابك المؤسسة تلو المؤسسة، وتبني قلاعًا للخدمات الإجتماعية والدينية والثقافية، للمكفوفين والمغتريبين، والمسنين، والمحتاجين، والمرضي، والفقراء. فما كان يمضي عام إلا وأنت تفتتح مشروعًا جديدًا، كنت تتمثل، فعلاً لا قولاً، بيسوع المسيح الذي كان يتجول يصنع خيرًا.
- علمتني يا أبي أن الوطن غال وجميل وعزيز، كما قال الشاعر: "وطني وإن جارت عليّ عزيزةً، وأهلي وإن ضنوا علي كرام"، فلقد رأيتك تعمل من أجل ”مصر" طيلة حياتك، وكانت "مصر" عندك هي الأرض والناس الطيبين الذين حملتهم في قلبك، وظلت "شبرا" هي أجمل بقعة في الأرض عندك، فرفضت أن تغادرها إلي حي أكثر ثراء ماديًا؛ لانك وجدت في أهلها كل غني النفس، وكل جمال الإنسانية. وحين كنت أصطحبك إلى أجمل أماكن "أمريكا"، من "واشنطن" العاصمة علي شلالات "نياجرا"، كنت أراك تسهم ناظرًا علي البعيد، وأسألك فتقول "عمار يا شبرا"، وها أنذا مثلك يا أبي، أجد نفسي حاملاً "مصر" في داخلي في المهجر، فلا أكتب شعرًا إلا في محبتها، ولا أكتب نثرًا إلا عن محنتها.
- علمتني يا أبي أن المحبة لا تسقط أبدًا، وكثيرًا ما كنت أدهش حين أراك تعامل الناس كلهم- حتي من أساؤا إليك، بمحبة وإبتسام. وكنت تخدم الجميع بلا تفرقة. لم تكن تسأل المحتاج عن دينه أو مذهبه أو أصله وفصله، كان يكفيك أنه إنسان، متمثلاً بيسوع الذي علمنا أن البشر جميعًا هم إخوتنا حين تسائل: من هم إخوتي؟ لقد أحببت الجميع فأحبك الجميع، أقباطًا ومسلمين، فقراء وأغنياء، متعلمين وأميين، أقوياء وضعفاء. وكنت تحكي لنا كيف جاءك أحد رؤساء الجمعيات الإسلامية في "شبرا" يومًا متسائلاً: يا أبونا ماذا فعلت لشيخ الأزهر حتي يلبي دعوتك لحضور حفل جمعية الكرمة القبطية، ويعتذر عن حضور جمعيتنا نحن؟ "إنت عامله عمل؟" فقلت له؛ طبعًا أنا عملت له عمل، عملت له عمل المحبة، إنه يجد لدينا المحبة الخالصة له وللجميع، فيحب أن يأتي إلينا، نعم يا أبي كنت تعمل عمل المحبة للجميع، والمحبة لا تسقط أبدًا.
- علمتني يا أبي أن هناك خطوطًا حمراء لا يجب أن يسمح أحد للآخرين بتجاوزها، عندما يتعلق الأمر بالقيم والمعتقدات وحقوق الإنسان. وقد فوجئ الكثيرون حينما رأوك وأنت في قمة مكانتك الإجتماعية والسياسية في البلد، بوقفتك العلنية الشجاعة ضد الذين كانوا يهاجمون العقيدة المسيحية، ويتهمون الأقباط بالكفر، ويمزقون الوحدة الوطنية، معرضًا مكانتك وسلامتك الشخصية للخطر، في وقت لم يكن يتكلم فيه أحد في "مصر"، وفعلاً ألقي بك في غياهب السجن في قرارات سبتمبر 1981 وأنت في السيتنات من عمرك، وحين زرتك في سجنك، وسألتك عن حالك، رحت تسألني أنت عن حالنا نحن، عن الأسرة وعن الجمعية. وبعد خروجك لم تفقد إخلاصك للوطن، ولم تحوِّل محبتك إلي كراهية ورغبة في الإنتقام، بل كتبت كتابك "الأقباط وطنية وتاريخ"؛ لتشهد العالم علي وطنية الأقباط الناصعة. وإلي شريك الوطن كتبت "أنت أخي وأنا أخبك"، متمثلاً بتعليم يسوع لنا أن نغفر للذين يضطهدوننا.
ومضيت تواصل طريق البناء والعطاء والعمل دون إنتظار مقابل، فرحت توسِّع من أعمالك في خدمة المحتاجين، تاركًا لهم صروحًا ومؤسسات ومبان شامخة بإسم جمعية "الكرمة"؛ لخدمة الأجيال القادمة.
-علَّمتني يا أبي أن التدين لا يعني الإنغلاق علي النفس، والإبتعاد عن الواقع، والزهد في المعرفة؛ بل علي العكس، فالتدين الحقيقي هو محبة كل ما خلق الله لنا، والتفاعل مع الناس والواقع والحياة، والإنفتاح علي المعرفة من كل مصادرها. لذلك يا أبي كانت عظاتك النموذجية، وكتبك الذهبية، مليئة بآيات الإنجيل، وتعاليم القديسين، وحكمة الحكماء، وفلسفة الفلاسفة، وأشعار الشعراء، وأقوال الأدباء، ونظريات العلماء.
كنت تنهل من كل نبع صاف، وتتذوق من كل بستان أجمل زهراته، ولذلك كنت موسوعيًا في معارفك ورؤاك المتفتحة السابقة لعصرها، قبلت الأخر قبل أن يتحدثوا عن قبول الأخر، وكنت عالميًا قبل أن يكتشفوا العولمة.
- نعم يا أبي، كنت كما قال عنك الأنبا "موسي" نموذجًا للكهنوت المثالي، فانعم يا أبانا الحبيب بأحضان القديسين بعد أن جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الايمان، وأخيرًا وضع لك إكليل البر.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :