بقلم: د. يحيى الوكيل 
الجو حر..نار
و"المصرى أفندى" واقف فى طابور طويل أمام بائع الكنافة ينتظر دوره للحصول على نصف كيلو يحمله للبيت، يتصبب عرقًا يدخل كماء النار فى عينيه، يلسعهما، ولم يعد يفلح معه تجفيفه بكمه؛ فالتيشيرت الذى يرتديه صار مبلولاً تمامًا، كما لو كانت السماء تمطر سيولاً.
 
لم يكن "المصرى أفندى" وحده فى هذه الحال، فكل الواقفين فى الطابور على حاله، والرائحة المتصاعدة من الأجساد تزكم الأنوف، ولكنه لا يشتكى فهمْهِ من همهم؛ ففى الصباح امتد وطال انقطاع المياه اليومى من بعد الفجر لما بعد نزوله من البيت متوجهًا لعمله فى المصلحة، ولم يجد فرصةً للإستحمام أو حتى غسيل وجهه– وطبعًا لا أحد يغسل أسنانه فى شهر الصيام.
 
على الأقل هو محظوظ؛ لأن اليوم دوره فى الاحتفاظ بالجريدة اليومية، والتى يتبادل شراءها مع زملائه فى العمل؛ توفيرًا للنفقات، فيشتريها كل يوم واحد منهم، ويقرؤونها جميعًا فى العمل– حيث لا عمل لهم حقيقة إلا قراءة الجرائد– ثم يعود بها من اشتراها إلى منزله، محتفظًا بالحق فى حل الكلمات المتقاطعة والسودوكو.
 
واليوم تقوم الجريدة بأداء دور إضافى وهو المظلة، يدفع بها عنه ضوء الشمس الحارق والذى حذّره منه الولد "مينا" ابن بنت خاله– أذكِّركم بأن أم "المصرى أفندى" كانت مسيحية– وهو عفريت كمبيوتر، وقال له: إنه وجد على مواقع الأرصاد الجوية العالمية تحذيرات من وصول معدلات الأشعة فوق البنفسجية التى تتعرض لها "مصر"، وحتى "القاهرة" المُغلَّفة بالتراب العالق فى جوها، إلى ما يسبب سرطان الجلد أساسًا وغيره أيضًا من أنواع السرطان.
يا حفيظ.
 
قارب "المصرى أفندى" على فقد وعيه لكثرة ما خسر من سوائل جسده، واستحالة استعاضتها، حتى لو أراد؛ إذ لن يسمح له "المؤمنون" بالجهر بالإفطار، حتى وإن كان فى صيامه مضرة له. فبدأ يسلِّى نفسه بالتفكير فى تقاعس الحكومة عن تحذير الناس من مضار التعرض لأشعة الشمس المباشرة هذه الأيام، ولكن لم يطل به التفكير طويلاً حتى سمع صياحًا يأتى من مقدمة الطابور، وما أن ميِّز فيه كلمتى "العجينة خلصت" حتى انتبهت كل حواسه.
 
تابع "المصرى أفندى" خناقة حامية بدأت بين الواقفين فى أول الطابور، وبين صاحب شادر بيع الكنافة بمجرد إعلانه أن العجينة خلصت. وبين سيل السباب الذى انهال على الرجل فى نهار شهر الصيام، ميِّز "المصرى أفندى" ردود بائع الكنافة، والتى لم تخرج عن "الدقيق قليل وبنجيبه بالعافية"،و"انت لسه شفت حاجة يا أستاذ، ده بيقولوا مش حنلاقى قمح نستورده خلاص"، و"يا ست هانم انت عارفة أنا دافع فى الأنبوبة كام؟" و"سولار إيه يا حضرة! شغل الأفران بتاع زمان خلاص علشان بيهربوا السولار لـ"غزة" واحنا مش لاقيينه".
 
بدا لـ"لمصرى أفندى" أن ردود بائع الكنافة قد قيدت ألسنة الناس، إلا أن هذا لم يدم طويلا، إذ بدأ اشتباك آخر بين الطابور الرجالى والطابور الحريمى، اتهم فيه الرجال بائع الكنافة بمحاباة النساء، إذ أن الواحدة منهم تأتى وتقف فى طابور قصير لتشترى ما تريد وتمضى، قبل أن يحل الدور على من جاءوا حتى قبلها من الرجال.
 
ردود النساء كانت أكثر تسلية من ردود بائع الكنافة، فمنهن من صاحت: "الرجالة ما عادش فيها نخوة، عايزين ياخدوا بدل دور الحُرمة دورين من عندهم"، وأخرى: "بقى يا راجل يا ناقص عايز الحريم تتحشر وسط الرجالة فى الطابور، وفى رمضان! والله ما لك إلا الشبشب".
 
بينما انشغل الناس فى إنقاذ الرجل من شبشب المرأة الثائرة، وصلت دفعة أخرى من العجينة، فعاد الطابور إلى ما كان عليه، وانقطعت عن "المصرى أفندى" كل وسيلة لقطع الوقت، ولم يعد لديه إلا أن يقرأ الجريدة التى يُظلل بها على رأسه. وكان يود لو وفَّرها، يسلى بها وقته حتى موعد الإفطار فى البيت. 
 
المصرى أفندى كان أيضًا متوجسًا مما يمكن أن يجده فى الجريدة، فمنذ أول الشهر الفضيل لا أخبار إلا عن انقطاع الكهرباء والمياه، وقتلى حوادث الطرق، وجرائم الثأر، وملف النيل، ومنع تصدير القمح الروسى، وحتى هزيمة الإسماعيلى وتعادل الأهلى؛ فياله من شهر.
 
بعد الاستعاذة من الشيطان الرجيم، مترددًا، فتح "المصرى أفندى" جريدته ليقرأ ما فيها، وفورًا قرح عيناه خبرٌ عن قتل أربعة مستوطنين مدنيين إسرائيليين بالضفة الغربية عشية مفاوضات مباشرة الغرض منها السلام فى تلك الأرض.
 
واضحٌ أن الشياطين لا تتسلسل تمامًا فى رمضان كما يقول له الشيوخ.
 
تذكَّر "المصرى أفندى" ما قرأه من أيام قليلة فائتة عن حقائب الأموال السائلة التى مرت من معبر "رفح"، وهو يطالع ترحيب قيادات حماس بالعملية وتبَنيهم لها.
 
واضح أنهم "يحللون قرشهم"، أو ربما "يحللون بترو-دولارهم" فى رمضان.
 
الطابور يتحرك ببطء، وأقدام "المصرى أفندى" تزحف معه بشكل آلى، بينما هو مستغرق فى قراءة تفاصيل الخبر؛ فعلم أن الأربعة القتلى من عائلة واحدة، وأن النيران أُطلقت عليهم مرتين فغص حلقه من المرارة.
 
كم يبلغ الحزن بأهلنا إن مات من عائلة واحدة فى الريف المصرى أو فى الصعيد أربعة رجال، وفى ليلة واحدة؟ وماذا قد يفعل الصعايدة لو أن هذا حدث لهم؟ ولماذا أطلقوا النار على الجرحى؟ أى شريعة تلك التى تبيح إطلاق النار على الجرحى المدنيين؟
 
لا زال الطابور يزحف، ويقرأ "المصرى أفندى" نقلاً عن وكالات الأنباء أن القتل نُفذ قبل حلول الظلام مباشرة– أى فى الوقت الذى ينتهى فيه الإفطار و يبدأ فيه الاستعداد لصلاة العشاء وصلاة التراويح، إلا أن القتلة كانوا يعدون وينفِّذون صلاة من نوع آخر، "صلاة التذابيح".
 
نقلت أيضًا وكالات الأنباء أن عشرات الفلسطينيين شاركوا في مسيرات حاشدة بمخيم "جباليا" للاجئين شمال قطاع "غزة"، ومناطق أخرى، نظمتها حماس ابتهاجًا بالعملية، وأن نشطاء حماس وزَّعوا الحلوى على المواطنين في أحياء عدة من قطاع غزة، وصدحت مساجد القطاع بالتكبير مباركة للعملية.
 
يوزِّعون الحلوى فرحًا بالقتل؟ وبدم بارد؟ وتُكبِّر المساجد لذبح الجرحى؟
 
انتبه "المصرى أفندى" إلى يد تهزه وتسأله "عايز قد إيه يا أستاذ؟"، فوجد نفسه أمام بائع الكنافة، وقد مالت الشمس فى السماء، ولم يعد باقيًا الكثير على موعد المغرب.
 
بهدوء أغلق "المصرى أفندى" الجريدة وطّبقها، وبصوت خفيض قال للبائع: "أنا لن آكل الحلوى اليوم"، والتف خارجًا من الطابور، وهو يتمتم: "ولن أصلى صلاة التذابيح أبدًا".