الأقباط متحدون | تبرع يا مؤمن...
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٦:٥١ | الخميس ٩ سبتمبر ٢٠١٠ | ٤ نسئ ١٧٢٦ ش | العدد ٢١٤٠ السنة الخامسة
الأرشيف
شريط الأخبار

تبرع يا مؤمن...

الخميس ٩ سبتمبر ٢٠١٠ - ٠٠: ١٢ ص +03:00 EEST
حجم الخط : - +
 

بقلم: د. يحيى الوكيل
الجو حر.. نار
تمامًا كالمرة الماضية حين كان المصرى أفندى واقفًا فى نفس الطابور، يُمنى النفس بالحصول على نصف كيلو كنافة، ولم يفعل بعدما انسدت نفسه من عملية اغتيال المدنيين التى قام بها إرهابيو حماس لإفساد مباحثات السلام المباشرة فى "واشنطن".

الست "حكومة" زوجة المصرى أفندى "طينت عيشته" لما عاد لها بدون ما طلبت من كنافة؛ واتهمته بالتفاهة وتقريبًا العمالة لـ"إسرائيل"؛ لحزنه على قتلى اليهود. ومهما حاول أن يشرح لها رفضه للقتل بدم بارد على الجانبين، وأنه خاف مما يمكن أن يحدث لأطفال "غزة" إن قرر الإسرائيليون الانتقام لقتلاهم، إلا أنه لم يحس أنها اقتنعت. فقط سكتت إلى حين.

لم ترسله بعدها مباشرة لشراء الكنافة، فقد احتاجوا للنقود لإكمال المطلوب لدفع فاتورة الكهرباء عن شهر أغسطس، والتى تعدت المقرر لها فى الموازنة بكثير بالرغم من انقطاع الكهرباء المتكرر. ولكن بمجرد أن حصل على راتبه الشهرى حتى دخلت معه فى صفقة مفادها أن تقتصر فى الفرجة على مسلسلين اثنين فقط لتوفير الكهرباء؛ فيتوفر له من النقود ما يكفى لشراء نصف كيلو كنافة ولوازمه من الفول السودانى، وربما بعض الخروب المبشور– فجوز الهند المبشور قد فارق مائدة المصرى أفندى منذ زمن.

وقد قبل المصرى أفندى الصفقة، بالرغم من أنه غير مطمئن على الإطلاق لإنفاق "الحكومة"، وخائف من أن تورّطه فى ديون جديدة كما تفعل دائمًا.

اليوم لم يكن دور المصرى أفندى فى شراء الجريدة، فاحتاط لذلك ليدرأ عن نفسه الشمس، واستنقذ جريدة قديمة من التى تخزنها الحكومة لتبيعها من وراء ظهره بالكيلو، وتأخذ عائد البيع لنفسها. تنهّد المصرى أفندى فى استسلام، وانتبه لصوت يزداد اقترابًا منه ينادى أن "تبرع يا مؤمن، تبرعى يا مؤمنة"، وصاحب الصوت شاب نحيل فى حدود العشرين عامًا من العمر، يرتدى جلبابًا باكستانيًا أبيضًا وعمامة بيضاء ذات ذؤابة وكل ذلك من مقاس أكبر من مقاس الشاب، حتى بدا وكأنه تاه وضاع فى ما يلبس؛ و لتكملة الصورة، فقد ترك المسكين لحيته بلا تشذيب، وهى لا تزال إلى حد ما خفيفة تتناسب مع حداثة سنه، فأصبحت كمجموعة من اللطخ السوداء على وجنتيه وذقنه.

التفتت أنظار الواقفين فى الطابور– رجالاً و نساءًا – إلى الشاب الذى يقترب منهم، والذى استمر فى ندائه طالبًا التبرع من المؤمنين والمؤمنات الواقفين فى انتظار شراء الكنافة، وفى يده ما بدا أنه دفتر ايصالات، وقد علّق على كتفه حقيبة من الجلد الرخيص لا ينفك يهزها ليُسمع الواقفين رنين ما تحوى من العملات؛ ليبين أن هناك من المؤمنين من سبقوا إلى التبرع ودفع أقساط دخولهم إلى الجنة – كما سمع المصرى أفندى من قال ذلك سابقًا وهو يجمع التبرعات فى أتوبيس النقل العام قبل أن يُقبض عليه متلبسًا بالنشل ويحل الميكروباص محل هيئة النقل العام.

تحسس المصرى أفندى جيوبه، وفى أحدهما وضع ثمن نصف كيلو الكنافة وثُمن كيلو من الفول السودانى، وفى الآخر تكلفة المواصلات إلى البيت: نصف جنيه كامل، ولا نقود أخرى معه؛ فماذا لو أحرجه جامع التبرعات هذا وألح عليه فى أن يدفع؟

لقد أحسن جامع التبرعات اختيار أهدافه، فالواقفون فى طابور لشراء الكنافة لابد أن معهم نقودًا زائدة ينفقونها على الحلوى– فهم ليسوا كالواقفين فى طابور للحصول على رغيف الخبز المُدعَم؛ لكن المصرى أفندى لا يملك إلا ما يكفيه بالكاد لشراء ما طلبته منه "حكومة".

للحظات فكر المصرى أفندى أن يترك مكانه فى الطابور ويهرب إلى المنزل، لكنه فكّر فيما ينتظره من عذاب لو أنه لم يأت بما طلبته منه "حكومة"، فقرّر أن ينتظر ويرى كيف تسير الأمور؛ لعل جامع التبرعات يكتفى قبل أن يصل إليه، أو أن ينتهى منه دفتر الإيصالات، فالطابور طويل وصاحب العمامة لا يزال فى أوله.

تعلّقت أنظار وحواس المصرى أفندى كلها بصاحب العمامة، وغص حلقه لما أدرك أنه بقدر طول الطابور فدفتر الإيصالات سميك، وسيكفى كل الواقفين ومثلهم مرة أو مرتين.

كم يحتاج جامع التبرعات هذا – ولا شك إنه ليس وحده؟ ولأى غرض؟

وكأنما قد سمعه صاحب العمامة، أكمل إنشاده بطلب التبرع لبناء "جامع قرطبة"، فسألته إحدى الواقفات:
- هى قرطبة دى فين ياخويا؟
وتلقفت الخيط بقية النساء اللائى يشاركنها الوقوف فى الطابور.
- تكون كومباوند جديدة من اللى بتطلع إعلاناتها فى نص المسلسل؟
- يعنى ناحية التجمع الخامس ولا ستة أكتوبر؟

بعيون امتلأت شررًا، وجّه صاحب العمامة نظرات قاسية إلى النساء الواقفات فى الطابور، وصاح بهن: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، ولم يحتج أن يكمل، فقد مدت كل منهن يدها إليه و بها بعض النقود، وقد ارتسم على وجوههن جميعًا تعبيرٌ هو مزيج من الخوف واليأس، إلا فتاة أصغر من جامع التبرعات بعام أو اثنين ارتسم على وجهها تعبير تحد قاس، وسألته: "أغلب جرائم هذا العالم يقوم بها رجال، وتريدنى أن أصدق أن عدد الرجال فى جهنم سيقل عن عدد النساء؟"

حدجها صاحب العمامة بنظرة مملوءة بالغيظ والكراهية، حتى ظن المصرى أفندى أنه سيهم بضربها وتحسب للأسوأ وهو يلعن اضطراره للوقوف فى الطابور والحالة التى هو عليها برمتها، ولم ينقذه إلا أحد الواقفين فى طابور الرجال يسأل صاحب العمامة:
- بس أنت يا أخ ما قلتش لنا فين جامع قرطبة ده!
فرد عليه صاحب العمامة إنه فى "نيويورك"، فى قلب "أمريكا"، ووجهه يحمل تعبيرًا غريبًا لم يعرف المصرى أفندى إن كان زهوًا أو تشفيًا.

هلل معظم الواقفين فى الطابور وكبّروا، وهنأ بعضهم البعض على بناء المساجد فى قلب "أمريكا" حتى استوقفهم رجل يبدو عليه التقدم فى العمر، وسأل صاحب العمامة:
- مش يا بنى كنا نبنى بيوت للناس اللى بتقع بيوتها فى "مصر" الأول؟
وأعطف عليه رجل فى مثل عمره:
- أو كنا نشترى القطاع العام من الدولة بدل ما عمالين يبيعوه بتراب الفلوس ومعاه أرض البلد..

لم يلتفت إليهما صاحب العمامة واستمر يجمع ما استطاع من النقود، حتى استوقفه شاب فى الثلاثينيات من عمره بسؤال: - انت بتجمع تبرعات للجامع اللى عايزين يبنوه قدام مكان أبراج التجارة العالمية اللى فجّرها "ابن لادن"؟ ولم ينتظر الشاب جوابًا فأكمل: ما حاجتكم إلى مسجد فى هذا المكان بالذات، والمسلم يستطيع الصلاة فى أى مكان، وليس كالمسيحى مثلا الذى يحتاج إلى كنيسة وكهنوت لممارسة شعائر عبادته؟

بينما توقّف صاحب العمامة عن جمع النقود، وقد بدأ يستشعر خطرًا من كلام ذلك الشاب، استمر الشاب فى تساؤلاته: يعنى الغرض بس إذلال الناس فى "أمريكا" وتذكيرهم باللى ماتوا لهم يوم 11 سبتمبر بس كل يوم، ومش بس كده، ده خمس مرات فى اليوم؛ يعنى الجامع ده لو اتبنى حيعلى حالة العداء بين الأمريكان وبيننا!
يبقى مين مجنون يتبرع له؟

بصوت ملئ بالغيظ والقسوة رد صاحب العمامة: إن بناء بيت من بيوت الله مقدَّم على كل متاع الدنيا،  وإنه لا يمكن منع بناء بيت من بيوت الله– فلا يفعل ذلك إلا كافر زنديق، فرد عليه الشاب:
- يا راجل! أمال محافظ "المنيا" اللى منع الناس هناك يبنوا كنيسة على أرضهم يبقى إيه؟
فى ثورة تحرَّك صاحب العمامة نحو الشاب الذى جادله، وهو يصيح "من يمنع بناء بيت لله يعلو فيه صوت الإسلام ويصلى فيه على "محمد" خير البشر، هو من المفسدين فى الأرض، ويُقتل، ويُقتل، ويُقتل"

اضطرب الطابور تمامًا لدى محاولة الناس منع صاحب العمامة من الفتك بذلك الشاب، ولم يفهم المصرى أفندى لماذا يتعرض هذا الشاب للأذى، فهو لم ينطق كفرًا، بل وجد المصرى أفندى منطقًا سليمًا فيما قاله.
عمومًا، انتهز المصرى أفندى الاضطراب الحادث وكسب عدة أماكن فى أولوية الطابور قاربت به على دور الشراء، ولم يعنه فى قليل أو كثير ما يحدث خلفه، وبعض الناس يحاولون إثناء صاحب العمامة عن عزمه على البطش بالشاب الذى جادله بينما يقويه على ذلك البعض الآخر، والأكثرية – كالمصرى أفندى – ليست مع هؤلاء أو أولئك وتنتظر فقط نصيبها فى طابور الكنافة.

لم يدم الأمر طويلاً حتى تمكّن بعض الحاذقين من صرف صاحب العمامة عما نواه من بطش، عارضين عليه تبرعاتهم وهو ما رده إلى سيرته الأولى، فاستمر فى جمع الأموال من الناس– والذين لم يعد منهم من يعترض أو يسأل بعدما عاينوا نتيجة الجدل معه.

لم يبق إلا فردين ويصل المصرى أفندى إلى مبتغاه ويشترى الكنافة، وإذا بصاحب العمامة واقف تمامًا بحذائه وصوته يملأ عليه الفراغ المحيط به؛ "تبرع يا مؤمن".
من أين؟

لم يستطع المصرى أفندى حتى مجرد التفكير فى ألا يتبرع، بعدما رأى بعينيه نتائج الجدل مع صاحب العمامة ووقوف بعض الناس إلى جانبه – متأثرين ولا شك بفكرة دخول الجنة بالتقسيط المريح، وربما بدرجة أكبر إنهم سيتخلصون من نسائهم اللائى سيذهبن إلى النار.
سيدفع إذن؛ ولا حل إلا بالتخلى عما كان سيدفعه لشراء الفول السودانى ومجروش الخروب، فأدخل يده فى جيبه – حريصًا على ألا تصل إلى مخصصات الكنافة– وخرج بها وفيها ما كان سيشترى لحشو الكنافة.
لا بأس، فليأكلوها سادة أفضل من المرمطة.

نظر صاحب العمامة إلى ما دفعه إليه المصرى أفندى فى تأفف، ولسان حاله يقول: إن المبلغ لا يستحق حتى قيمة إيصال للسداد؛ وفعلاً لم يعط المصرى أفندى إيصالاً، ولم يفكر المصرى أفندى فى طلبه منه.
صرف صاحب العمامة ذهنه إلى التالى فى الصف، وسمع المصرى أفندى يكرر "تبرع يا مؤمن".

حل الدور على المصرى أفندى أخيرًا، فطلب نصف كيلو كنافة شعر وابتسامة عريضة على وجهه، لم تلبث إلا قليلاً جدًا حتى اختفت؛ فسعر الكنافة زاد عن المرة الفائتة والمطلوب منه نصف جنيه زيادة، وهو لا يملك غير النصف جنيه المخصص لأجرة الميكروباص الذى سيوصّله للبيت.

للحظات فكّر المصرى أفندى أن يسترد تبرعه من صاحب العمامة، لكنه استبعد الفكرة، وقدّر إنه إذا كان صاحب العمامة قد استحل قتل من جادله فى الدفع، فماذا يفعل به إن حاول استرداد ما دفع؟
مستمرًا فى التفكير، ولكن بسرعة الآن فقد صار الموقف محرجًا جدًا وبائع الكنافة مادد يده بلفة فيها ما اشترى ولم يدفع ثمنه بعد، وازن المصرى أفندى الأمور بين أن يعود بلا شراء وبين أن يعود ماشيًا، وقرّر أنه كما أن لم يكن له قبل بصاحب العمامة فلا قبل له بثورة "حكومة".

دفع المصرى أفندى كل ما فى جيبه، وبدأ يمشى فى اتجاه البيت.
و الجو حر... نار.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
تقييم الموضوع :