ثورة العشرين ودورها في تأسيس الدولة الطائفية(2-2)
بقلم: د.عبدالخالق حسين
الثورة تسبب عداء الإنكليز للشيعة
ولمعاقبة قادة الثورة، ومكافأة الذين وقفوا ضدها من العراقيين، يقول الميجر ديكسون وهو بمثابة الحاكم العام للفرات الأوسط: "إن النية يجب ان تتجه لتعيين الرجال ذوي الآراء المعتدلة دون غيرهم في المناصب السياسية، وضرب واضطهاد عناصر الثورة في حالة وجودها". كما و أوضحت المس بل وبانفعال شديد موقفها من الشيعة بالذات قائلة: "أما أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب يقعون في مأزق حرج. فإنهم من أصعب الناس مراساً وعناداً في البلاد" (17).
ومن هنا نعرف أن الثورة أثارت مشاعر العداء والضغينة عند الإنكليز ضد الشيعة ولم يحاولون إخفاءها. كما ولاحظ استخدام المس بيل لكلمة (الأغراب) في وصف الشيعة إذ منذ ذلك الوقت بدأت حملة اعتبار الشيعة أجانب في العراق لتبرير حرمانهم من حق المشاركة في الدولة.
ولم يكتف الإنكليز بزرع لغم الطائفية في الدولة الحديثة عند تأسيسهم لها، بل عملوا على تكريس تهمة الطائفية ضد كل من يشكو منها، إذ يقول الدكتور سعيد السامرائي في عقدة الاتهام بالطائفية في كتابه القيم (الطائفية في العراق) ما نصه: "من ضمن الخطة التي وضعها الإنكليز لتدمير نفسية الشيعة العراقيين عندما أسسوا الدولة العراقية مجبرين، نتيجة للثورة العراقية التي فجرها وقادها وتحمل معظم تضحياتها الشيعة عام 1920، هي محاصرتهم بتهمة الطائفية، وذلك كي يردوا بمحاولة نفيها. ومحاولة النفي هذه ستكون أولاً: بتقديم آيات الولاء للدولة السنية بمختلف الوسائل التي في أبرزها التحيّز ضد الشيعي في التعيينات والترقيات والترشيحات والإيفادات والبعثات وصولاً إلى مشاركة الدولة وطاعتها بما تقوم به من اضطهاد طائفي ضد الشيعة أنفسهم، وثانياً: بالوقوف ضد كل شيعي يرفع صوته صارخاً بالمظلومية الواضحة للشيعة خشية أن تثبت تهمة الطائفية لأنهم قد أدخلوا في روعهم أن طلب الإنصاف هو تحيّز مذهبي". (18).
ويضيف الدكتور السامرائي في هذا الصدد في مكان آخر من كتابه قائلاً: "ولو كان حبس المظلوم لصرخته فائدة للمجتمع بحيث يصبح التنازل عن حقه في التعويض وقصاص الظالم المعتدي أمراً محبذاً وجالباً للشكر من المجتمع، فهل سيبقى كذلك إذا ما أصبح تكريساً لواقع الظلم الشاذ في المجتمع إلى الوراء عقوداً من الزمن، وصار الظلم يمارس وكأنه حق مكتسب للظالم وأمر مقبول في المجتمع، ومن ثوابته المتعارف عليها؟... وكيف يمكن تصحيح الأوضاع الشاذة في المجتمع إذا لم نضع أيدينا على الجرح وتشخيص الأسباب والواقع والجذور وكل ما يتعلق بالظلم الذي وقع كي نشرع بمحاولة منع حصوله ثانية؟ ... وهكذا يصبح من يمارس أبشع أنواع القمع والتمييز الطائفي بريئاً من تهمة الطائفية في حين يصير الشيعي الذي يصرخ متظلماً مما حل به طائفياً." (19).
على أي حال، قرر الإنكليز تشكيل حكم أهلي في العراق وإعطاء المناصب لأولئك الذين ناصبوا الثورة العداء. فقد تأسس الحكم الوطني أو الأهلي في العراق عام 1921 بتخطيط من الحكومة البريطانية، واختير السيد عبد الرحمن النقيب رئيساً للحكومة الأهلية الأولى، مكافئة لإخلاصه للمحتلين، إذ ينقل المؤرخ مير بصري عن النقيب قوله: "إن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وأراقوا دماءهم في تربتها، وبذلوا أموالهم من أجلها، فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به". (20).
موقف الدولة الوليدة من المرجعية الشعية
إن حرب الجهاد وثورة العشرين قد بينتا بوضوح ما للمرجعية الدينية الشيعية من نفوذ قوي في البلاد وتأثيرها الروحي على الجماهير. فكلمتهم مسموعة وبذلك كانوا يشكلون خطراً على سلطة الاحتلال، ومن بعدها على سلطة الحكم الأهلي، إذ يقول الباحث إسحاق نقاش في هذا الخصوص: "وكان وجود مؤسسة دينية (شيعية) على هذا القدر من الاستقلال والنشاط السياسي، يشكل خطراً على السلطة العراقية الوليدة. لذا سعت الحكومات السنية العراقية المتعاقبة إلى اجتثاث سلطة المجتهدين الشيعة والمؤسسات الشيعية في البلاد والحد من الصلات القائمة بين النجف وكربلاء وإيران." (21)
ومن هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، إسقاط الجنسية العراقية عن الشيخ مهدي الخالصي، أحد قادة ثورة العشرين، ونفيه إلى إيران بأمر من وزير الداخلية محسن السعدون في حكومة ناجي شوكت. وقد بلغت عملية الاجتثاث الذروة في عهد حكم البعث حيث بدأت عملية قتل رجال الدين الشيعة كما حصل للسادة: مهدي الحكيم، والشيخ عارف البصري، ومحمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى، ومحمد صادق الصدر، وغيرهم من رجال الدين الأقل مرتبة في تراتبية الشيعية.
وهكذا نلاحظ أن هناك علاقة جدلية بين الاستعمار البريطاني وتأسيس الدولة على أسس طائفية في العراق، إذ كما يقول حسن العلوي: "…وقد يكون صحيحاً ان "المسلمين" استعانوا بالاستعمار لتحقيق أهدافهم الطائفية، كما استعان الإستعمار بالطائفيين لتحقيق أهدافه. وقد يكون عبد الرحمن النقيب ورجال السلطة العراقية، هم المثال الصارخ على استعانتهم بالإنكليز واستعانة الإنكليز بهم. (22).
تقييم الثورة ونتائجها
يرى البعض من علماء الاجتماع، ومنهم العلامة علي الوردي، أن الشعب العراقي كان في حالة ثورة دائمة ضد الحكومات المتعاقبة طوال التاريخ، وخاصة خلال الحكم العثماني الذي دام نحو أربعة قرون، وأن ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني كانت واحدة من تلك الثورات، ولكنها اختلفت عن سابقاتها في كونها ضمت عدداً كبيراً من العشائر العراقية ورجال الدين، ولأهداف وطنية.
وبعيداً عن التزلف في مداراة المجتمع، ومجارات الرأي العام السائد، أرى أن ما قام به الشيعة من حرب الجهاد وثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، كان خطأً، لأنه لم يكن في صالحهم ولا في صالح الشعب العراقي بصورة عامة، إذ لم يكن أهل العراق آنذاك مؤهلين لقيادة الدولة وإدارة مؤسساتها، فكما ذكرنا آنفاً عن أحد المفكرين الإنكليز أنه "لو حكم العراقيون آنذاك، لأكل بعضهم بعضاً" وهذا ما حصل فيما بعد. ولذلك فأنا أعتقد أن الاستعمار الأوربي للبلدان المتخلفة كان ضرورياً في مرحلة من مراحل التاريخ، وذلك لنقل الحضارة الحديثة إلى شعوبها، ومن ثم منحها الاستقلال. ولو حصل هذا في العراق لما بنيت الدولة العراقية على أسس طائفية.
ولكن من الجانب الآخر، من الظلم أن نحكم على أية ثورة بعقلية اليوم، فالتاريخ لا يسير وفقاً لمنطقنا ورغباتنا على ضوء أحكام عصرنا الحاضر، فالأمور مقرونة بأوقاتها، كذلك وكما قال ماركس: "يصنع الناس تاريخهم بأنفسهم، ولكن النتائج غالباً تكون على غير ما يشتهون".
ويقول علي الوردي بهذا الصدد عن ثورة العشرين: "الواقع أن ثورة العشرين في انتصارها وهزيمتها لم تخضع لإرادة أحد من البشر، بل هي جرت تبعاً للظروف التي أحاطت بها. إن الإنسان في معظم أحداث التاريخ يجري وفق ما تملي عليه ظروفه كأنه الريشة في مهب الريح بينما هو يحسب أنه كان في ذلك حراً مختاراً". (23)
على أي حال، ووفق منطق اليوم، أعتقد أنه كان من الأفضل لو لم تندلع هذه الثورة وقبلها حرب الجهاد التي كلفت العراقيين كثيراً، وكان من صالحهم لو استمر الإنكليز في حكم العراق فترة أطول إلى أن يتدرب العراقيون على الحكم ويتم نقلهم إلى الحضارة الحديثة ويتخلصوا ولو نسبياً من بعض مفاهيمهم وقيمهم البدوية، وبمساعدة البريطانيين لهم، ومن ثم تتأسس الدولة في وقتها المناسب، وبعد أن تهيأت لها الظروف الموضوعية، وتدربت طلائع الشعب على الحكم، وإدارة مؤسسات الدولة مع نبذ الطائفية.
لقد أرغمت الثورة الإنكليز، ولتقليل خسائرهم، إلى اتخاذ موقف معادي من الشيعة، وتأسيس الدولة العراقية الحديثة بشكل متسرع، وزرعوا فيها ألغام الطائفية الموقوتة لتتفجر فيما بعد وعلى مراحل، وذلك باحتكار السلطة لمكونة واحدة من الشعب وحرمان بقية المكونات من المشاركة العادلة، لضمان ولاء الحكام للإنكليز، مقابل كسب دعم الإنكليز للحكام في إبقائهم في السلطة، وليس دعم الشعب الذي لا يأتي إلا من خلال النظام الديمقراطي الحقيقي ودولة المواطنة المتساوية. وبذلك عاقبوا قادة ثورة العشرين وأجيالاً من أبناء طائفتهم من حقوق المواطنة والمشاركة في دولتهم الوليدة التي لولا ثورتهم لما تأسست في ذلك الوقت المبكر وبنزعة طائفية.
وهذا يذكرنا بمقولة فرنسية في هذا الخصوص: "يقود الثورة الشجعان، ويموت فيها المجانين، ويقطف ثمارها الجبناء".
وقد آن الأوان للعراقيين أن يتعلموا من تاريخهم المرير، ويأخذوا منه الدروس والعبر في تصحيح ما أفسده الدهر.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :