الصفقة السوبر
بقلم: د.يحيى الوكيل
طالع "المصري أفندي" صفحة الرياضة بالجريدة وهو متكئ على الحائط، بالقرب من الشباك في الممر المؤدي للمكتب الذي تشغله الإدارة التي يعمل بها بالمصلحة، فلا مكان له اليوم بداخل المكتب.
الغلافة التي تشغلها الإدارة ضيقة وتسع بالكاد لثلاثة مكاتب متلاصقة وستة كراسي، يتناوب عليهم الجلوس والعمل الثلاثون رجلاً و امرأة المعينون بهذه الإدارة، والبقية -مَن يحضر منهم فعلاً لديوان المصلحة- يقفون، أو يجلسون على كراسي يخزنونها في البوفيه، وواحد منهم اشترى لنفسه كرسيـًا معدنيـًا يربطه بجنزير وقفل على عامود ماسورة الحريق عند ذهابه لأي غرض له، أو عند نهاية يوم العمل.
كل هؤلاء الفائضون عن حاجة العمل لا شغل لهم إلا المناقشات والرغي طوال النهار، كمرتادي قهوة المعاشات طيبة الذكر، ومناقشاتهم تشمل كل شيئ من الرياضة إلى السياسة، وهي مناقشات كمثل مناقشات أصحاب المعاشات في الزمن الغابر، ليست إلا قضاءًا للوقت، ولا تؤدي لأي عمل من أي نوع.
مناقشة اليوم كانت حول "الصفقة السوبر"؛ التي ما يزال خلفها الجهازين الفنيين لأكبر ناديين رياضيين فى مصر، والتي وضح أنه رغم كل الملايين التي أُنفقت -والتي كان يمكن أن تستصلح أراضٍ تكفي ليزرعها كل الزائدين عن حاجة العمل في الإدارة؛ فتلك الملايين لم تؤمن بعد لأي من الناديين ما أراد.
في خضم المناقشة الحامية، خرج صوت "المصري أفندي" من بين طيات صفحات الجريدة قائلا:
- المفروض أن نطبق نظام الاحتراف على الرئاسة و الحكومة، بدل ما احنا مش عارفين راسنا من رجلينا، مين هيترشح ومين هيتسجن الانتخابات الجاية؟؟
أحس "المصري أفندي" بعمق السكون الذي عم الجميع وعيونهم التي تسلطت كلها عليه، وقدر أنهم يطلبون منه تفسيرًا وتوضيحـًا لما قاله، فاستطرد:
- يعني زي ما فريق الكورة بيبقى تلاتين لاعب، دول يبقوا الوزراء، ومدرب حراس المرمى يبقى وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء، والمدير الإداري بدل رئيس مجلس الشعب و الشورى، والمدرب العام هو رئيس الوزراء، والمدير الفني هو طبعـًا الرئيس.
سكت "المصري أفندي" لحظات ليقيس رد الفعل على ما قاله، فلم يجد إلا أفواهـًا مفتوحة وعيونـًا جاحظة ووجوهـًا خوالي من التعبير، فاستكمل:
- أنا شفت الفكرة دي في فيلم "الناظر"، هتبقى فكرة هايلة، يعني نقدر نشتري اللعيبة اللي على مزاجنا وفي حدود إمكانياتنا، ومن كل مكان في الدنيا، واللي ما يجيبش أجوان نخلص منه ونلزقه لشعب غلبان أكثر مننا؛ يا جماعة هيبقى بينا و بينهم عقد، ولو ما نفذهوش نشتكيهم للفيفا والفيفا تبهدلهم.
- أما بقى اللي يبقى كويس منهم، ممكن نشوف له احتراف خارجي، وتمن بيعه ينفعنا نشتري وزراء صغيرين ونشيطين وينفعونا في كأس الأمم.
- ولو ربنا يوفقنا في صفقة سوبر، مش هنشيل همّ التوريث ولا نخاف من الجيش ولا دياولو.
عند هذا الحد انفجر الواقفون حوله كلهم في الضحك، وصرفوا نظرهم عنه، فشعر "المصري أفندي" بغيظ وإحباط، وإن سرى عنه بعض الشيئ ما وصله من تهامس بعض الزملاء مع بعضهم، وقد سمعهم يقولون: "والله فكرة العقد دي مش بطالة، على الأقل نعرف نحاسبهم"، وآخرون: "لو فرضنا إن الفكرة تنفع، طيب مين هيتعاقد معاهم؟ الشعب حاليـًا ما لوش وكيل؛ فين أيامك يا "سعد" باشا".
عمومـًا لم يبرح "المصري أفندي" مكانه حتى موعد الإنصراف من المصلحة، ولم يشاركهم في مناقشاتهم لنهاية اليوم.
أسرع "المصري أفندي" الخطى عابرًا الميدان إلى موقف الميكروباص، ملتفتـًا حوله ليتأكد من عدم وجود طالبي التبرعات من أي نوع، حتى لا يسطو على ما في جيبه بسيف الحياء، ويعود مرة أخرى إلى البيت ماشيـًا.
انحشر "المصري أفندي" في أول ميكروباص وتحمّل ساعة من العذاب، حتى وصل إلى مقربة من البيت فنزل، ومشى وسط شوارع متربة وتتكدس فيها أكوام القمامة، حتى بلغ منزله فصعد درجات السلم وفتح الباب وهو تقريبـًا على آخر رمق.
وجد زوجته "حكومة" وراء الباب مباشرة وتعبيرات وجهها تنذر بالشر، ولكن هذا لم يفاجئه؛ فهي طبيعتها والطريقة التي تستقبله بها دائمـًا؛ صاحت به: "إزاي يا راجل انت تِدَخل نفسك في اللي ما لكش فيه؟ عقود ايه واحتراف ايه؟! اتنيل شوف لك إعارة في الخليج أحسن لك وأحسن لنا، بدل ما تودي نفسك في داهية".
مصعوقـًا، لم يرد "المصري أفندي"، و لم يفكر في شيئ غير أمر واحد: كيف عَرَفَت؟! كيف عرفت؟!!
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :