العلاقات الدينية - الطبقية
(الطائفية السياسية - الفصل السابع)
د:عبدالخالق حسين
التباين الطبقي - الاجتماعي
لعل الأستاذ حنا بطاطو هو أول من تناول الجانب الطبقي- الاجتماعي في التمييز الطائفي في العراق في العهد الملكي، في كتابه القيم الموسوم: (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق) خاصة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، معتمداً على تقرير من الخارجية البريطانية مؤرخة في 30 تشرين الأول 1936 مبيِّناً بوضوح أن إحدى الحقائق المثيرة للاهتمام، والنابعة من تجاور العلاقات الدينية - الاجتماعية للعراق الملكي في العشرينات من هذا القرن، كانت درجة القربى القائمة بين الولاء الطائفي والموقع الاجتماعي في أجزاء مختلفة من جنوب البلاد ووسطها، فقد كان الملاّكون من السنة الأثرياء والفلاحون من الشيعة الفقراء.
كان زعماء المجتمع العربي في البصرة مثلاً من السنة أيضاً، بينما كانت أكثرية سكان المدينة من الشيعة. ولكن رجال الدين الشيعة كانوا يشغلون موقعاً ليس بقليل الأهمية، وينطبق القول نفسه على المدن الأخرى عدا المدن الشيعية المقدسة إذ كان العنصر السني الذي شكل أقلية دوماً، متفوقاً اجتماعياً وكان يتألف إلى حد كبير من التجار وملاكي الأراضي الأغنياء. (1)
وكانت الأسواق الصغيرة في المناطق الشيعية، وأسواق الصحراء المجاورة مثل سوق الشيوخ في محافظة الناصرية تقع أيضاً تحت سيطرة التجار السنة القادمين من نجد في شبه الجزيرة العربية. وفي لواء المنتفق (الناصرية)، كان كل الفلاحين بلا استثناء من الشيعة، في حين كان الكثير من أسيادهم ملاك الأراضي من عائلة عشائرية سنية واحدة هي عائلة السعدون. وكذلك الأمر في منطقة الحلة، حيث كان هزاع بن محيمد، الشيخ الكبير للمعامرة، وهي فرع من التحالف الزبيدي، سنياً بينما كان جل مزارعيه العشائريين من الشيعة.
وفي بغداد أيضاً، حيث تمتعت الطائفتان بالمساواة العددية تقريباً، كانت العائلات المسيطرة اجتماعياً سنية، مع بعض الاستثناءات. ونرى ذلك في تركيبة الجيش العراقي، منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، إذ كان الضباط من السنة غالباً، والمراتب والجنود كانوا في غالبيتهم العظمى من الشيعة.
هل من علاقة بين التشيع والفقر؟
إن ثنائية السنة- الشيعة توافقت إلى درجة ضئيلة مع الانشقاق الاجتماعي- الاقتصادي العميق الجذور. ويحاول بطاطو إيجاد تفسير لهذه العلاقة بين الشيعية والفقر من جهة، والسنية والمكانة الاجتماعية والثروة من جهة أخرى. بمعنى هل الشيعة عانوا من الفقر والتمايز الاجتماعي لأنهم شيعة وبسبب التمييز الطائفي وسيطرة السنة على السلطة؟ أم الفقر والمستوى الاجتماعي المتدني هو الذي جعل الفقراء أن يتحولوا إلى شيعة؟
وللإجابة على هذه الإشكالية، يقول بطاطو: في ضوء الدليل الواقعي المتوفر لا يمكن تأكيد أو إنكار أن التباينات الطبقية هنا كانت هي الأصل، وكانت التباينات الدينية هي الفرع. طبعاً، للسيطرة الاجتماعية للسنة جذورها المباشرة في الحالة التاريخية السابقة، لأن كل مرحلة هي نتاج وامتداد المرحلة السابقة، وفي بعض المناطق الريفية، كما في ريف المنتفق (في الناصرية محافظة ذي قار لاحقاً)، نجمت هذه الحالة عن سيطرة عشائر "أهل الإبل" السنية على عشائر الفلاحين الشيعية وسكان الأهوار، وأهل الغنم، وكلهم شيعة. أما في المدن، فإنها نبعت من السيطرة السياسية العثمانية السنية.
إلا إن حنا بطاطو لا يريد أن يعطي جواباً قاطعاً في اعتبار العامل السياسي هو المسبب لهذا التباين ووضع الشيعة المتدني، بل يعتبر العامل السياسي مسؤولاً جزئياً في تفسير هذه الظاهرة. إذ يضيف: "وفي الوقت نفسه يجب الإشارة إلى أن الشيعية، كآيديولوجيا وفي صيغتها العملية، لها جاذبية طبيعية عند ضحايا الظلم والاضطهاد، وهذه الجاذبية تنبع من اهتمامها بالمعاناة ومن مركزية موضوع الانفعال المتألم في إسلاميتها". (2)
ولكن لا يمكن إلغاء دور العامل السياسي في التباين الاجتماعي - الاقتصادي، فخلال الحكم العثماني الذي دام أربعة قرون، كان الشيعة يعانون من الظلم بشكل مضاعف، ولم يسمح لأبنائهم دخول المدارس الحكومية أو ممارسة الوظائف في الدولة.
ولما تأسست الدولة العراقية على أنقاض الدول العثمانية، اتبعت النخبة الحاكمة ذات النهج الطائفي في اضطهاد الشيعة وحرمانهم من حقوق المواطنة السليمة. لذلك فالعامل السياسي لعب دوراً كبيراً في هذا التباين الطبقي الاجتماعي في وضع الشيعة البائس.
ومن جانب آخر، يجب أن لا نقلل من جاذبية الشيعية للمظلومين، فالشيعة كما يقول علي الوردي، كانوا في حالة ثورة دائمة ضد الحكام ومنذ ثورتهم الأولى في واقعة كربلاء عام 61 هجرية. ونتيجة لانحياز الشيعة للمظلومين، فمن الطبيعي أن تجتذب لها أبناء العشائر السنية الفقراء، وأفضل مثال في هذا الخصوص هو تشيُّع عشائر المنتفج في الناصرية، بينما حافظ شيوخهم الأغنياء على سنيتهم.
تفسير استمرارية الشيعة
كذلك يحار المرء في سر استمرارية الشيعة رغم الاضطهاد الشرس الذي مورس بحقهم طيلة قرون سحيقة وعمليات الإبادة، وخاصة في العهد العثماني. وقد لاحظنا انقراض أو ضعف وتضاؤل العديد من الفرق الإسلامية مثل الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة،...الخ بينما بقيت الطائفة الشيعية رغم الاضطهاد ومحاولات الإبادة ضدهم في توسع. ويسأل بطاطو: كيف يمكن للمرء أن يعلل هذه الاستمرارية الشيعية، وخصوصاً في مواجهة قرون طويلة من السيطرة السنية، تلك الظاهرة التي تمثلت في سيطرة الأتراك العثمانيين (1534-1622/1638-1917) وإقطاعيهم التابعين: المماليك الموالي (1749-1831)؟.
يجيب بطاطو على هذه التساؤلات أنه إضافة إلى قوة الاستمرارية الآيديولوجية التي هي من طبيعة الأديان، وخصوصاً للطوائف المضطهَدة، فإن أحد العوامل الواضحة التي ضمنت ديمومة النفوذ الشيعي كان وجود المقامات (الأضرحة) الشيعية والمدارس الدينية في النجف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء. وكان العامل الآخر هو العلاقات التجارية والدينية المتبادلة التي حافظ عليها شيعة العراق، وإن بشكل متقطع، مع شيعة بلاد فارس.
وكذلك كان هنالك ما يمكن تسميته بعدوى البيئة، إذ يبدو أن القبائل البدوية التي كانت تنتقل إلى المناطق الشيعية - وكان أثر الإسلام خفيفاً على البدو- كانت تميل بمرور الزمن إلى التكيف مع معتقدات المنطقة وممارساتها. ويبدو الأمر نفسه صحيحاً بالنسبة للمنطقة السنية. ومما يثير الاهتمام، مثلاً، أن عشيرة شمر جربة، التي كانت ديرتهم (أي مَواطنهم) في العهد الملكي في محافظة الموصل وفي الجزيرة بين الفرات ودجلة، وعشيرة شُمّر طوقة التي كانت ديرتهم على دجلة جنوب بغداد، كلاهما فرعان من القبيلة الأم نفسها: شُمّر جبل نجد في شبه الجزيرة العربية. ومع ذلك واحدة سنية والأخرى شيعية. وبشكل مشابه، فإن آل فتلة، الذين شكلوا العمود الفقري للثورة العراقية عام 1920م، هم فرع من الدليم، ولكنهم شيعة يعيشون على الفرات الأوسط ، بينما تعيش عشيرة الدليم نفسها على الفرات شمال غرب بغداد، في محافظة الأنبار (الرمادي) وهي سنية. وأيضاً، فإن أقسام الجبور التي تعيش في الحلة من الفرات هي شيعية، في حين أن أقسام الجبور التي تعيش في الشرقاط جنوب غرب الموصل هي سنية. وكان مما ساعد عملية التكيف والتحول المذهبي هذه في مناطق الشيعة هو الحماسة التبشيرية لـ"المؤمنين" (أو "الموامنة" كما يسمَون باللهجة العراقية) وهم رجال دين جوّالون. وهكذا فإن ابن سند، مؤرخ المماليك، نسب في العام 1826م أو أوَّلَ ذلك إلى مبادرة هؤلاء الدعاة الشيعة الجوّالون تحول مشايخ تحالف الزبيد العشائري إلى "روافض"، أي شيعة. (إبن سند، مطالع السعود.. ص169). وكذلك في العام 1869، لام إبراهيم الحيدري، وهو عالم سني بارز، "أبالة الروافض" على تبني "بنو تميم" للمذهب الشيعي قبل ذلك بستين سنة. (3)
ويضيف بطاطو في مكان آخر قائلاً: وقد يثير الاستغراب كيف أن التحولات إلى المذهب الشيعي كانت تتم في ما يبدو تحت سمع الحكومة السنية وبصرها. والتفسير بسيط، فخلال الجزء الأكبر من العهد العثماني كانت أوامر السلطات لا تكاد تصل إلى خارج المدن الرئيسية، وهكذا فإن التحالفات العشائرية المتحركة في الريف كانت تشكل في أغلب الأحيان السلطة الوحيدة على نفسها. وربما تكون التحولات قد حصلت على حساب الحكومة. فعدم قبول العشائر بالحكومة- أية حكومة- وربطهم بين الحكومة والاضطهاد والظلم، إضافة إلى حقيقة أن الحكومة كانت سنية، قد يكون سهَّلَ مهمة "المؤمنين" في تحوّل تلك العشائر إلى الشيعة.
ولا بد من القول أن الحكومة في العهد العثماني منحت الشيعة حرية كاملة في القيام بعباداتهم وممارسة شعائرهم المذهبية بطرقهم الخاصة في كل الأمكنة التي كانوا يعتبرونها مقدسة، ويبدو أن السبب في هذا كان الربح المتحقق من تدفق الزوار إلى العراق (السياحة الدينية). أما في الأماكن الأخرى، وتحديداً في البصرة أو بغداد، فقد كانوا ممنوعين من ممارسة شعائرهم بحرية. وهذه القاعدة كانت سارية - على الأقل - في أيام الحكم المملوكي (1749-1831)، حيث غدت أقل حدَّة في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، ثم خفّت أكثر بعد ثورة الأتراك الشباب في العام 1908. أما خلال العهد الملكي فكانت الحرية الدينية للشيعة مطلقة وكاملة. (4) ومن الجدير بالذكر أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق كانت تفرض التمايز المذهبي- الطبقي في المناطق الشيعية، كما كانت تمارس تمييزاً عرقياً وطبقياً في المناطق الكردية، أما الأكراد الشيعة فكان التمييز ضدهم ثلاثياً، أي طبقياً وعرقياً وطائفياً.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :