بقلم: مينا ملاك عازر
 كنت أنوي أن أكتب مقالاً عن الصداقة وأهديها لأعز صديق لي في عيد ميلاده، ولكنني خشيت أن يفهم أحد أن ذلك "شخصَنة" للأمور، ويسيئ الظن به رغم أنني كنت أنوي الكلام عن الصداقة بكل معانيها الحلوة، وأشير من بين الطيات إلى أصدقائي، لكن تراجعت كما قلت خوفـًا من إساءة فهمي، إلى أن قرأت ببالغ الحزن والأسى مقال بعنوان: "حتى أنت يا صاحب" للأستاذ "عادل عطية"، فقلت حينها لا مانع أن أكتب عن الصداقة؛ حيث ستزول الظنون السيئة التي قد تكتنف مقالي هذا.

 وفي البداية أحب أن أوضح أنني قرأت مقال الأستاذ "عادل" ببالغ الاستمتاع بمعانيه الراقية، ورِقة ألفاظه، حتى أنه وضعني أمام اختبار صعب حين قررت الكتابة لأرد عليها، فكان لزامـًا عليّ أن أكون على نفس القدر من المستوى الراقي من المعاني والأفكار المتدفقة والفياضة، ولمحت أسىً باديـًا على كلمات الأستاذ وغصة تملأ ألفاظه، نابعة من قلب معتصر ومطعون، وله حق؛ فجرح الخيانة جرح لا يوصف ولا تستطيع مفردات اللغة التعبير عن مدى عمق الجرح.

 لكنني يا أستاذ "عادل"، ورغم اتفاقي معك في كل ما قلته، أرى أن الحياة بدون صداقة لا يمكن أن تُعاش، ودعني أن أرجع بالزمن إلى الوراء منذ أن وعيت على الدنيا، وأنا أرى أبي له صديقان لا يفارقهما ولا يفارقاه، في الحزن قبل الفرح، أراهم واقفين بجواره، وأبنائهم أبناءه، وأنا كإبن من أبنائهم في المعاملة والمحبة، ومن حينها وأنا أطمح في أن أجد الأصدقاء في حياتي.

 بحثت عنهم كثيرًا وأنا أراقب كل شخص يظهر أمامي وأقيمه وأتفحصه، وأرى إن كان يصلح أم لا، ومِن الأشخاص مَن رأيته يصلح لأن يكون صديقـًا، ومنهم مَن رفض صداقتي، ومنهم مَن خُدِعت فيه، ولكن بحثي عن الصديق استمر إلى أن قادتني الأيام إلى بعض الاصدقاء، ظننت كل الظن أنهم هم أصدقائي، ولكن الأيام سرعان ما فعلت فعلتها وفرقتني عنهم.

 وفي لحظات ضيقي وحزني وصَلاتي لله لأن يرشدني للصديق الذي يرافقني حياتي، وجدت صديقي الذي استمرت صداقتنا للآن أكثر من ثماني سنوات، وأظنها ستستمر بإذن الله إلى الأبد، اختلفنا واتفقنا، وفي اختلافنا واتفاقنا ظللنا أصدقاءًا أحبابـًا في عز اختلافنا أكثر ما نحن أصدقاء في وقت اتفاقنا، وعبرنا سويـًا عواصف وأنواء بحر الحياة، وذقنا حبنا لبعض، واستمتعنا بخدماتنا التي نقدمها لبعضنا البعض.

 ولم يضنِ عليَّ الله؛ فلم يرزقني بصديق واحد، صحيح هو أقربهم بحكم كثرة تلاقينا، ولكن الله رزقني من بعده بأصدقاء ثلاث في الجامعة، استمرت علاقتي بهم للآن، وتعرفت على أصدقاء كثيرين عرفتهم من الحياة واختبرت معدنهم في مناسبات حزني قبل فرحي، منهم مَن يكبرني في السن، ومنهم من يصغرني، لكن كلهم قريبون لقلبي وعقلي، وكلهم يسرعون إليّ في وقت رغبتي في صديق، ويتسابقون على راحتي والحمد لله.

 وللأمانة وللتاريخ؛ فأنا مدين لأمي بصداقة صديقي، حيث أنها لطالما صلت لله لكي يرزقني بصديق وزوجة، وها هو الله رزقني بالصديق، واقتربت من الزوجة ببركة الصلاة، ودعوات أمي وأبي لي، وتدقيقي في اختيار الصديق، وتدقيقي في الصديق جاء من كلمات قالها لي أبي رحمه الله أذكرها للآن: "صديقك مَن أصدقك لا مَن صدقك"، و"الصداقة بئر يزداد عمقـًا كلما أخذت منه"، و"صديقك مَن طعنك من الأمام".

 وكنت أعرف أن كلمة صديق تكونت من "ص": صدق، و"د": دم واحد، و"ي": يد واحدة، و"ق": قلب واحد، وما دُمت اجتمعت وصديقك على الصدق ووضعتم أيديكم في أيدي بعض اجتمعت قلوبكم على حب صادق بلا أي غايات في هذا الحب.

 فيا أستاذ "عادل".. معذرة قبل أن تلوم صديقك لأنه طعنك، لُم نفسك لأنك اعتبرته صديقـًا وأعطيته ظهرك وهو لا يستحق، وبالتالي ليس العيب في الصداقة وإنما العيب في مَن صادقناهم وقتلونا وطعنونا، فظهورنا التي طُعنت ممَن كنا نسميهم أصدقاءًا.. سرعان ما ستلتئم جراحها، لكن قلوبنا التي قد تُطعن من أصدقائنا لها القدرة على أن تحتمل طعنات أصدقائنا، لأنها إن جاءت فعلاً من أصدقاء مخلصين؛ فهي أكيد طعنات مخلصة.

 وليست القناعة هي الكنز الذي لا يفنى، وإنما هي الصداقة، فأنا أعرف أن الصديق يكتب عيوب أصدقائه وأخطائهم في حقه على الرمال، لكي حينما تأتي رياح التسامح تمحها، وجمايلهم وفضائلهم عليه على الصخور حتى لا تؤثر فيها أي ريح، وخطيئة الصديق تُنسى ما دامت طارئة؛ فمعدن الصديق هو مقياسنا في التسامح وأخذنا له في حِضننا.

 وفي نهاية القول يا أستاذ "عادل"، ضمد الله جرحك، وحماك وحمانا من جراح قادمة، وأبقى لنا صديقـًا مخلصـًا يهون علينا ما مضى وما هو حال وما سيأتي.

 المختصر المفيد: إذا كُنتَ في كل الأمور معاتبـًا صديقك، لن تلقى الذي لا تعاتبه. فعش واحدًا أو صل أخاك؛ فإنه مُقارف ذنبـًا مرةً ومُجانبه، إذا أنت لم تشرب مرارًا على القظا، ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟!