بقلم: محمود عزت – دبلوماسي مصري
انحدر من أسرة ريفية بسيطة، أنعمت عليها ثورة يوليو بخمسة فدادين، التي تسلم والده صك ملكيتها من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. واحتفظ بصورة هذا الحدث في صحن منزله المبني بالطين الآجر كعادة الفلاح المصري الأصيل.
شب تلميذاً ذكياً متطلعاً للمراكز الأولى بين أقرانه بالمدرسة التي كان يقطع إليها الطريق صباحاً وفي المساء يعود لمنزله يستذكر دروسه بجد واجتهاد، واستفاد كما استفاد الكثير من مجانية التعليم التي تمناها عميد الأدب العربي د. طه حسين وحققتها ثورة يوليو.
استمر في تفوقه حتى صار من أواءل الثانوية العامة، ولما كان يحلم بالعمل السياسي اختار كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وتخرج منها أول دفعته حتى أن ابنة الزعيم كانت تزامله وكثيراً ما تبادلا كشاكيل المحاضرات!

وعلى حين غفلة.. قررت الثورة تطعيم مؤسساتها ببعض الشباب من خريجي الكلية التي تخرّج فيها فوقع عليه الاختيار لتولي وظيفة في إحدى أجهزة الدولة ليكون أحد سعداء الحظ للعمل بها مع آخرين من زملائه، وشرع في عمله بسيطاً لطيفاً مهذباً، يتلقى تعليمات رؤساءه في خشوع ودماثة وأدب جم.
فكان موضعاً لثقة وتقدير واعتزاز رؤساءه فدفعوا به إلى الأمام، وكان دائماً ممكن يتم ترقيتهم بالإختيار فوصل بسرعة إلى أعلى مراتب وظيفية، وهنا طرأت عليه بشائر لم تكن يوماً لديه ظاهرة، بل ماكنة أو مكيّنة خفية عن الأنظار.. فأصبح لا يسمع إلا صوته، فإذا تحدث مع مرؤسيه لا يطيق أن يناقشه أو يعارضه أي منهم رغم ما كان يلاحظه هؤلاء المرؤسين من ضعف في حجته وخفة في رأيه وسطحية تبدو شفافة في أحاديثه!
فكان يولي التفاصيل اهتماماً لا يستحقها حتى يغرق فيها، حتى تحجبه عن التوصل إلى الرأي السليم!

واتسمت بالتالي شخصيته بالتردد والتذبذب وعدم القدرة على مواجهة مشاكل عمله، حتى لأنه كان يرى مثلاً أن انتقاد أجنبي أو تناوله لأحد الأحداث التاريخية لمصر.. تدخلاً في شئون مصر الداخلية!!، وهو رأي واضح الفساد..
ولكن لحسن حظه كان الجهاز الرئاسي الذي يشرف على عمله لا يهتم كثيراً بما يفعل أو يقول، ولم يُسأل يوماً عن قراراته التي ترتب عليها أضراراً جمة بمصالح مصر فضلاً عن ضياع وقت وجهد معاونيه في محاولة إقناعه دون جدوى وإثنائه عما يفعل لما فيه من خسارة للوطن الذي حباه بمنصب لم يحلم والده أن يتقلده نجله، وكان أعظم أخطاءه شعوره الدائم أنه على حق وأنه العبقري الذي يفهم ودونه –بالذات من معاونيه- أغبياء من المتعذر عليهم أن يدركوا فحوى آرائه "النيّرة"، بينما أدرو معاونوه ومرؤسوه أنه تقلد منصبه بحسن الحظ الذي أتاه بدعاء الوالدين!

وكان قد نسى وأنكر خلفيته العائلية تماماً وابتكر بذكائه إطاراً وخلفية آخرين ترفع شعار الهجوم على الثورة ومجانية التعليم، حتى لا يتصور الناس أن ما وصل إليه جاء نتيجة كفاح ونضال مشرف يصفق له الجميع ويحترمه، بل أنه كان يحاول أن يُدخل في روع معاونيه أن ما حصل عليه إنما حصل عليه نتيجة ما كان يتمتع به من ذكاء مكّنه من وصوله للمرتبة الأولى بين أقرانه سواء في التعليم أو في الوظيفة، وكونه سليلاً لعائلة ظلمتها الثورة!!
فكان كثيراً ما ينتقد الثورة وقادتها بعد أن زال رعيلها الأول الذين أخطأوا من وجهة نظره في إباحة مجانية التعليم لمن لا يستحق من الرعاع والأغبياء!
ويحكى عنه في شرح شبابه أن تقدم إلى عائلة –ظلمتها الثورة- يطلب الإرتباط بإحدى فتياتها رغبة في استكمال كافة أوجه مثلث الوجاهة والمكانة الإجتماعية، التي يمثل الضلع الأول فيه وظيفة براقة تزكم الأنوف توفر له مكانة إجتماعية رفيعة وهو الضلع الثاني، ولم يفتقد سوى لخلفية إجتماعية عريقة لم يتمكن رغم محاولتع نسجها بمساعدة ذكاءه وادعاءاته فكانت العروس ذات الأصول الأرستقراطية هي الحل!
ولكنه لم ينجح في إقناعها أو عائلتها بصلابة الأرضية التي يقف عليها.. فكان الرفض هو النتيجة المنطقية!
ولم يعر كبوته هذه اهتماماً بل قفز منها ليقترن بإحدى قريباته من الجناح الصاعد من عائلته الذي تسنى له بحسن الحظ أن يرتبط وينتمي لعلية القوم من خلال صدفة جمعت بين طرفي النقيد الذين لا يجتمعان عادة في الظروف الطبيعية!