خمس سنوات من حياة "رفاعة" فى "باريس" (1826 – 1831م)
بقلم: د. ماجد عزت إسرائيل
فى ربيع عام 1826 انتهز "محمد على"- والي مصر (1805 -1848م)- فرصة مرور السفينة الحربية "لاترويت" La Truite، فكلَّف قبطانها "روبيلار" Robillard أن يحمل معه إلى "مرسيليا" (إحدى مدن جنوب فرنسا) أربعين شابًا ليدرسوا فى "باريس" عاصمة فرنسا.
وبفضل جهود الشيخ "حسن العطار" أشار "على الباشا" بأن يضيف إلى الطلبة إمامًا يسهر على شئون دينهم فى تلك البلاد البعيدة، فلم يرفض هذا الاقتراح، وهكذا عين العطار تلميذه "رفاعة" إمامًا للبعثة.
وفى "باريس" اهتم "جومار" Jomard - مدير البعثة- بالشيخ "رفاعة" الذي توسَّم فيه الذكاء، فوجَّهه إلى الإفادة من رحلته بدراسة اللغة الفرنسية، وترجمة مبادئ العلوم، وتدوين مشاهداته فى "باريس"، لعل هذا الفتى الصعيدي أن يصير همزة الوصل المنشودة بين ثقافة الغرب وعقلية الشرق.
وسجَّل لنا "رفاعة الطهطاوي" كل ما شهده ولمسه فى مدينة "باريس" من خلال كتابه الشهير "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، فتحدَّث عنها من حيث موقعها الجغرافي بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض، وظروفها المناخية التي كانت سببًا فى تحديد شكل المباني المنحدر السقوف، وشكل الشوارع المبلطة بالحجر والمزودة بمجار تحمل الماء إلى البالوعات.. كما يصف المدافئ التي يوقدها الفرنسيون لاتقاء برد الشتاء، وكذلك البساتين المتنوعة. وعند رؤيته نهر السين الذي يمثِّل أحد روافد الأنهار بـ"فرنسا" وتقع عليه مدينة "باريس"، آثر عليه رؤية نهر النيل، وقدّر "رفاعة" عدد سكان ذات المدينة بنحو مليون نسمة، يتزايدون باطراد، وتتسع دائرة عمرانهم حول المدينة.
ومن خلال معايشته اليومية لسكان مدينة "باريس"، تبيَّن له اتصاف شعبها بشدة ذكائهم، وتأصل الثقافة فيهم، وتوقهم إلى الفهم والاستطلاع والوقوف على كل طريف، وولعهم بالصيف، ودوام الذكر أكثر من تهافتهم على الكسب. وعرف نشاطهم الجم، ووصف كل ذلك فى كتابه.. كما وصف حركاتهم، وتقلب مزاجهم وعواطفهم، وحبهم لوطنهم، وإكثارهم من الرحلات، واحتفاءهم بالأجانب. غير إنه لاحظ تبذيرهم المال فى طلب اللهو، وكون الاعتزاز بأنفسهم يسوقهم إلى الانتحار وتأديتهم الواجب، ووصف الرجال عندهم بأنهم عبيد النساء، يثقون بهن ويدللوهن، ثم يلجأون فى خيانة العرض إلى ساحة القضاء بدلاً من أن يثأر ثأرًا شخصيًا.
ويعجب رفاعة بعدم وجود الغزل فى أشعارهم، غير أنه يأخذ على نسائهم قلة العفاف، وعلى الرجال قلة الغيرة، وإن كان يرى أن اضطراب الأخلاق نتيجة اجتماعية طبيعية لبيئة المدن مثل "باريس"، وبجانب عقائدهم، فهم تقدميون تطوريون، يؤمنون بالعقل ويرفضون ما لا يقبله العقل من الخوارق، ويأخذ عليهم قولهم بأن الحضارة فى المجتمع الراقي تؤدي دور الدين فى المجتمع البدائي. ويستنكر "رفاعة" إنكار بعضهم القضاء والقدر، ثم راح يصف مظهرهم، من بياض البشرة- لعدم اختلاطهم بالزنوج- إلى رقة نسائهم اللطيفات اللواتي يشاطرن الرجال متعة النزهة والرقص.
وتأثر "رفاعة الطهطاوي" برسائل "مدام سفينية"، وأيقن أن للمرأة مكانًا فى الحياة الفكرية ينبغي أن تشغله، كما لاحظ مدى ثقافة الفرنسيين حتى لدى الطباخين وأرباب الحرف الأخرى.
كما نقل لنا أنماط الحكومة الفرنسية فى الديمقراطية، حيث يدافع عن الملك "دايون ألبير" أي "مجلس الأعيان"، ويدافع عن الشعب "مجلس النواب" أو "ديوان العمالات" كما يسميه، ليكون ذلك عبرة لمن يرغب.
وتعرَّف عن مواد الدستور التي كان أساسها العدل والمساواة والإنصاف، حتى إن الدعوى الشرعية تُقام على الملك ويُنفَّذ عليه الحكم كغيره، كل ذلك كان من تعمير الممالك وراحة العباد، فلا نسمع من يشكو أبدًا، فالعدل أساس العمران.
كما وصف لنا "رفاعة الطهطاوي" عادة سكنى أهل "باريس" عند بناء منازلهم مستخدمين الأحجار والطوب، وتزيينهم جدران الغرف بورق منقوش، وأرضها بخشب مصقول. ووضعهم مختلف أنواع الأثاث، وآنية الأزهار، وآلة البيانو، والسجاجيد النفيسة، ومكتبة تضم أرقى أنواع الصحف والكتب. كما أثنى على ربة المنزل، حيث قال: "يكمل الأنس بحضورها" من حيث منزلها الجميل وأناقته ونظافته، كذلك تحدَّث عن غلاء العقارات ووظيفة البواب.
ولم يفته استعراض مظاهر احتفاء الباريسيين بالفن؛ فعدّد أنواع التياير الباريسية من الأوبرا إلى السيرك، وكذلك البال أي حفلة الرقص "الدسكو"، وأعجبته بعض الرقصات التي يشترك فيها الرجال والسيدات وهم جميعًا فى أفخر حللهم وزينتهم، وكأنهم يؤدون حركات رياضية مهزبة راقية.
ومن خلال طوافة بمدينة "باريس"، وصف لنا حدائقها وشوارعها من الشانزليزية والبولفار، حيث ينتشر العشاق ليلاً، حتى إنه ليأخذه الطرب، فيخرج من أعماق ذاكرته أبياتًا من الشعر القديم عن الليل والغرام، كذلك وصف الحمامات لراحة الأبدان، ومدارس الرياضة البدنية كطرق طبيعية للعناية بالصحة.
وأثناء تجوُّله بمدينة "باريس" عدَّد لنا الجمعيات الخيرية ورودها فى فعل الخير ببناء المستشفيات، وملاجئ اللقطاء والأيتام والعمى والشيوخ "دار المسنين" وجرحى الحرب، ومكاتب إغاثة المنكوبين، ومراكز الإسعاف الأولية.
وحدَّثنا صاحبنا عن أغذية أهل "باريس" وعاداتهم فى المآكل والمشارب، فرأى خبزهم من الحنطة يطحنونها فى طواحين الهواء والماء، ويخبزها الفران، فيبتاعونها من دكانه؛ لكونهم يشغلون أيامهم بما هو أهم من صناعة الخبز فى بيوتهم. وكانت الأطعمة لديهم متنوعة، ولو عند الفقراء.. كما تناول المائدة وآدابها، وترتيب قائمة الطعام. وقد نالت هذه الأوضاع إعجابه، بالرغم من أن أطعمة الفرنسيين لم تطب له، كما شاهد الخمارات وتعثر ذات ليلة سكير خارج منها.
ووصف لنا "رفاعة" ملابس أهل "باريس"، وأثنى على لبس القمصان والألبسة والصديريات تحت ملابسهم، فكان الموسر يغير فى الأسبوع عدة مرات، وبهذا يستعينون على قطع عرق الواغش. ويشير إلى هندام الرجال، ولكنه يطنب فى وصف ملابس النساء التي يراها "لطيفة لها نوع من الخلاعة".
وقد انبهر لمشاهد الفن والجمال فى "باريس"، فتناول وصف ملاهيها، وقاعة التمثيل بها، ومراحل اللعب. وقد شبّه اللاعبين واللاعبات "العوالم"، ولمس خلال إقامته هناك خمس سنوات مدى حب سكانها للعمل والسعي إلى الكسب، وهو الشيء المتأصل فى نفوس هؤلاء، حتى إن كلمة التوبيخ التي كانت مستعملة لديهم وعلى ألسنتهم فى الذم هي لفظة الكسل والتنبلة.
ولم يفته الجانب الإقتصادي فى الحياة الباريسية، فاستعرض صاحبنا البنوك وشركات التأمين كمؤسسات مالية وسيطة تسهم فى النشاط الإقتصادي. وعدَّد أنواع المصانع وفوائد المعارض والمواد التي يدرسها الطلبة فى معاهد التجارة، والعوامل التي ساهمت فى رواج النشاط السياحي والإقتصادي، كوسائل المواصلات وانتظام البريد والدعاية والإعلان لحركة التسويق. وأشار إلى العلوم التجريبية والفنون والصنائع والمتاحف والكنائس الأثرية التي تحلَّت بها مدينة "باريس".
ولقد شهد "رفاعة" فى "باريس" قبل عودته إلى "مصر" ثورة الشعب الفرنسي على حكومة الملك "شارل العاشر" في يوليو سنة 1830م، وعلَّق على أسباب خروج الفرنسيين عن طاعة ملكهم من تعدد الأحزاب، وتشديد الرقابة على الصحف والمطبوعات، وإضراب العمال، وغضب الشعب على الحكومة، ونشوب الحرب الأهلية، ورسوم الصور الساخرة ضد الملك للمطالبة بالإصلاح. كما لاحظ أن الأسلوب العلمي هو أكثر الطرق للإصلاح السياسي.
ويعجب "رفاعة" بمروءة الفرنسيين، وتلك من صفات العرب الأصلية، وإن تكن ضعفت فى الأزمة الأخيرة "مشاق الظلم ونكبات الدهر"، مع اعتزازهم رغم ذلك بالحرية على نحو ما يعتز بها الفرنسيون.
وهكذا كانت عينا رفاعة لمَّاحتين، فرصدتا الحياة الباريسية من جوانبها المختلفة، فكان وصفه من أطرف أوصاف الرحالة فى العصر الحديث.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :