عزيزي القارئ اللبيب الذي كتب يقول لي( بين سطورك يسكن شئ من الأسي وربما كانت كلماتك مبتلة باليأس), وأقر واعترف أنك شرحت حالتي أكثر مني وجعلتني أقف لأري نفسي في مرايا الذات, حيث نهرب منها لفرط صدقها وكلنا بلا استثناء ـ حتي أنت ـ نكره الصدق الصادم, نحن جميعا ممثلون علي مسرح الحياة بلا نصوص, تختلف أدوارنا ونؤديها ببراعة حتي لو تقاطعت مصالحنا مع مصالح الآخر,
وفي الرحلة سقطت القيم وتقلصت الشهامة وتحجرت الدموع في المآقي, ونبتت شجيرات اليأس, أهو اليأس أم الواقع بلحمه وترابه؟ أهو اليأس( مساءلة الذات) كما قال لي الصديق د. فوزي فهمي؟ أهو اليأس أم( مرثية الزمن الجميل) كما كتب شاعرنا عبدالمعطي حجازي؟ أهو اليأس أم تفاؤل من رحم التشاؤم كما كان يردد صلاح عبدالصبور؟ أهو اليأس أم سقوط الأقنعة كما يري آرثر ميللر الأمريكي؟ أهو اليأس أم تلك الصدمة الحضارية؟
نعم, أنا أصرخ ويضيع صراخي في الصدق, لا لأني مثالي النزعة أو حارس للقيم, ولكن لأني أري البشر عراة فلا جدوي من الملابس والعطر وأبهة المنصب ومظاهر الثراء, والقبح يقطر من أصابعهم, يلونون الحقيقة بألوان الطيف ويزيفون الواقع بالصوت العالي, نعم أنا أدق علي طبلتي ليلا ونهارا كالمسحراتي, ولكن دقات الطبلة تذوب في رنات الموبايل, كثيرا ما احتمي ببيتي ـ قلعتي ـ من رياح النفاق ورخيص الكلام واسطوانات الكلمات المعادة والمشروخة,
وليست هذه دعوة للاعتزال, أو موجة غربة داهمتني بقدر ما هي تأمل للواقع المعاش, هل أخطأت حين توقفت قليلا التقط أنفاسي في زمن لا يسمح لك بالتنفس؟ هل أخطأت حين وقفت في وجه القطيع أصرخ هذا بهتانا, هذا تزوير للحقيقة, هذا خوف من مصائر مجهولة؟ وليست كلماتي مبتلة باليأس ياعزيزي القارئ اللبيب, ولا يسكن الأسي بين سطوري, بل هو( تحديق) أكثر مما ينبغي, والتحديق في الواقع أمر غير مرغوب,
تماما مثلما أدعوك للتحديق والتأمل في مزرعة خنازير, ستفوح روائح كريهة تسد أنف الشمس, سترتع القمامة أمام العيون حتي نعتذر للقمر ان ضوءه يغمر هذا المكان, سنري الخنازير تهرول الي بقايا الانسان تلتهمه فتكره هذا اللحم, ستدرك مدي التوازن البيئي الذي يربط بين الخنازير التي تأكل الفئران, فإذا اختفت الخنازير تكاثرت الفئران, ستدرك أن للقبح وظيفة, ستري أن التكنولوجيا أهدتنا الايقاع اللاهث وشغلتنا عن تمحور الفيروسات بألف شكل وشكل,
ستكتشف تلك الحرب الخفية بين الفيروسات ومناعتك, ستدرك أن مزرعة الخنازير ليست بعيدة تماما عن الكتل السكانية, بل هناك( مزارع خنازير) داخل الكتل السكانية, حيث تمحور بعض البشر وأخذ شكل الخنازير, بكل قبحها وكونها وسيطا عائلا لكل الفيروسات.
عزيزي القارئ اللبيب: صف لي دموع هذا الزمن, إنها كريستالية الشكل, لكنها تدمع بالروموت كنترول! لكني عشت ومازلت, الدمعة التي تغافلني علي خدي, والدمعة التي ذاب جفنها كما وصفها كامل الشناوي, والدمعة التي ـ من فرط الكبرياء ـ تلمع في العيون ولا تسقط! صف لي امرأة هذا الزمن, انها محددة الأهداف بلا قلب, من أول نظرة للايقاع بك الي اختيار اسم ابنك منها! انها ديكتاتورة في ثياب ديمقراطية فضفاضة! إنها سيدة قرارها حتي ولو طلبت صوتك! إن لها( بورصة مشاعر)
تتوقف علي سعر الدقيقة العاطفية والطلب والعرض! إن لها مؤسسة خاصة بأجندة خاصة لا تراها ولا تسمح لك أن تدلف إليها مهما كانت مكانتك! ولو وقفت علي بابها تصيح, خرجت تقول بدلال: هل تعادي طموحي؟ صف لي كبرياء هذا الزمن؟ انه يتمدد وينكمش حسب الحاجة العصرية! صف لي قيم هذا الزمن؟ صف لي العفة في هذا الزمن؟ ليس من بينها عفة العقل! صف لي المال في هذا الزمن؟ انه النفوذ والسلطة! صف لي الخوف في هذا الزمن؟ انه الخوف من الغد! صف لي الإرادة في هذا الزمن؟
انها قوة بيد غيرك برغم أنها أفضل الفضائل كما ذهب يحيي حقي! صف لي( المنصب) في هذا الزمن؟ انها لعبة الكراسي الموسيقية! صف لي( دكان عطارة) هذا الزمن؟ انه يبيع الصبر أكثر! صف لي( جامعة) هذا الزمن؟ إنها( جائعة للبحث والعلم)! صف لي نائب( برلمان) هذا الزمن؟ ان حصنه حصانته! صف لي الجهاز الحكومي هذاالزمن؟ انه فندق بلا أبواب!
عزيزي القارئ اللبيب, ستقول لي أراك متشائما؟ سأقول لك انه تحديق أكثر في الحياة! ستقول لي أطفأت الأمل؟ سأقول لك: بل أشعلت نور الحقيقة! ستقول لي( لا تتعامل مع التفاؤل), سأقول لك: لا أمد يدي لأصافح الوهم! ستقول لي( هناك نقط بيضاء), سأقول لك: أظهرتها بوضوح البقع السوداء! ستقول لي:( نظارتك سوداء), سأقول لك: تري السواد أوضح! ستقول لي( ألم يكن في زمانكم قبحا ما)؟ سأقول: كان المشهد جميلا مع بعض الظلال!
ربما تسألني( هل تقلصت الصفوة) كما يقول هيكل؟ سأجيب: تقلصت لتنمو الطفيليات! ربما تسألني( هل من أمل يلوح في الأفق)؟ سأجيب: انتظر الفجر! ربما تسألني( هل تفتقد أصدقاء)؟ سأجيب: أفتقد الصداقة!
عزيزي القارئ اللبيب, اذا كان الأسي يسكن سطوري ـ كما استشعرت ـ وكلماتي مبتلة باليأس ـ كما أحسست ـ فلعله القلق علي مستقبل الأحفاد, لعلها إرهاصات قلم له بصيرة, لعلها رعشة الخوف علي جيل سيعتلي الكراسي, لعلها هزة للإفاقة من الغفوة, لعلها سفينة نوح للهرب من الطوفان, لعلها ترتيلة أن الآتي أفضل.
*نقلاً عن الأهرام |