حادث مقتل المواطن والباحث الإيطالى «جوليو ريجينى» والعثور على جثته في أحد الطرق السريعة جريمة معقدة، وازدادت تعقيدًا بتزامن الإعلان عن اختفاء ريجينى مع تاريخ الخامس والعشرين من يناير، الذي شهد استنفارًا أمنيًا كبيرًا ومشهودًا، وأعقب ذلك العثور على جثة الضحية الإيطالى في منطقة تتبع محافظة الجيزة بطريق القاهرة - الإسكندرية يوم الأربعاء الماضى، وأعقب هاتين المحطتين من الأحداث بعض من الاستدعاءات الدبلوماسية للقاءات مع مسئولى كل من سفارتى مصر وإيطاليا، وهذا إجراء اعتيادى يرمى إلى استجلاء حقيقة الحادث وملابساته وتبادل المعلومات عن الضحية الموجودة لدى كلا الطرفين، حتى هذه المرحلة يمكن التعاطى مع الأحداث بصورة اعتيادية.
المتوقع وفق تحليلنا الشخصى أننا بإزاء سيناريوهين اثنين لا ثالث لهما، الأول يتمثل في كون خلية من الخلايا الإرهابية قد كلفت بمحاولة اصطياد إحدى الشخصيات ذات الجنسية الأجنبية، لكن تفسير التزامن مع ذكرى يناير ومعه التفسير المكانى الذي وجدت به جثة الضحية يضعنا أمام صورة أكثر تفصيلًا، قبل حلول ذكرى يناير كانت هناك موجة تصعيد ملموسة لدى التنظيمات الإرهابية الصغيرة أو التي تعيد تشكيل خلايا عشوائية تابعة لها، ومنها تنظيم «أجناد مصر» الذي ظهر اسمه في عملية المريوطية قبل ٢٥ يناير بـ٧٢ ساعة ومرة أخرى في وكر حدائق المعادى قبل العثور على الجثة بـ٢٤ ساعة، وبين العمليتين استطاع الأمن أن يوجه ضربات استباقية ناجحة.
«أجناد مصر»، وغيره من التنظيمات، كان مخططه أن يكمن في مناطق يمكن أن تسمى بحزام القاهرة الكبرى، وأكدت هذه الفرضية الحادثتين المشار إليهما بموقعيهما وبالضربات الأخرى التي وقعت في كرداسة والهرم وحلوان وأكتوبر، وجميعها أحياء على الأطراف وداخل الكتل السكنية القريبة من القلب المستهدف، إحدى الصفحات الشهيرة على مواقع التواصل الاجتماعى باسم أحد الأشخاص الذين يدور حولهم غموض وجدل كثيف «شهيد بولسين»، تبث الصفحة من تركيا، رغم حمل صاحبها للجنسية الأمريكية، هذه الصفحة التي يعتبرها الشباب الإخوانى منذ نحو عامين أحد مصادر الإرشاد للعمل الإرهابى الموجه للدولة والمجتمع المصرى، تواصل مؤخرًا مع تلك الصفحة العديد من أعضاء المجموعات الإرهابية حديثة التكوين ووجدوا داخلها تكليفات بضرورة استهداف المنشآت الحيوية لتعطيل الخدمات العامة، وهو ما عملت عليه تلك الخلايا طوال العام الماضى في تفجيرات أبراج الكهرباء والاتصالات ووحدات الجهد العالى، موجود على تلك الصفحة تفصيليًا أيضا أهمية استهداف الشركات الأجنبية العاملة في مصر ومعها الشخصيات الأجنبية العاملة فيها أو الزائرين لأغراض أخرى، وإيصال رسالة للخارج بأن الأوضاع في مصر طاردة للتواجد الأجنبى على أراضيها.
هذه الرسالة الأخيرة عبرت عن وصولها لذهنية المنفذين من خلال ارتكاب مجموعة من العمليات الساذجة المحدودة ضد أفرع لشركات لها أسماء أجنبية، تم ذلك خلال العام الماضى في حى المهندسين بالجيزة أكثر من مرة من خلال زرع عبوات ناسفة بجوار مواقع تلك الشركات، وانتقل بصورة أكثر خطورة على يد خلايا أكثر احترافية ضد منشآت دبلوماسية إحداها في حى الهرم والأخرى بمنطقة وسط البلد.
لتلك المعطيات السابقة يضعنا هذا السيناريو الإرهابى الافتراضى أمام إحدى الخلايا الإرهابية التي ربما استطاعت رصد الضحية الإيطالى، والمرجح كون تلك الخلية من الخلايا المبتدئة وفى نفس الوقت من المعنية كمثيلاتها بالتصعيد في فترة يناير، فقد قامت بتنفيذ عملية الاختطاف من خلال خطة مرتبكة، فلم يكن لديها خطة إعلامية جاهزة مثل غيرها من التنظيمات الكبيرة يمكنها من خلالها استثمار وجود ضحية أجنبية بحوزتها، مع الوضع في الاعتبار أنها حتميًا قد وصلها أخبار النشاط الأمنى المكثف وراء الخلايا المماثلة وبعضها قد سقط في قبضة الأمن بالفعل، هذا يحدث في ظرف متماثل مع حادث الخطف والاحتجاز مكانيًا وزمانيًا، موقع الخطف المفترض وفق أقوال أصدقاء الضحية وبعده مكان العثور على الجثة في أول الطريق الصحراوى، يدفعنا إلى رسم دائرة متخيلة يقع بداخلها موقع تلك الخلية الإرهابية في أحياء «الهرم، فيصل، بولاق، ناهيا، المريوطية» وجميعها تحوز القبول لدينا بقوة، فلن يبتعد مكان الاختطاف عن مكان الاحتجاز كثيرًا بأى صورة من الصور ومثله مكان إلقاء الجثة بعد ارتكاب جريمة القتل وجميع تلك النقاط تقع داخل تلك الدائرة المتخيلة، ويبقى لهذا السيناريو سؤالان يحتاجان للإجابة، أولهما يتعلق بآثار الاعتداء على الضحية، ولماذا القتل السريع والتخلص من الجثة، الأول يفترض ويتوقع من تلك المجموعة العشوائية أنها لا تتمتع بخبرات أو لديها ثقافة احتجاز رهينة ثمينة مثل تنظيمات داعش أو القاعدة أو حماس، ستخطط لكيفية الاستفادة منه فتكون أحرص على سلامته البدنية ولديها الذين يستطيعون إدارة ذلك، لذلك يتصور أن يكون أعضاء تلك الخلية قد مارسوا ضد الضحية بعضًا من سلوكيات الهوس والعنف غير المبرر لمجرد إحداث إصابات ما بجسد الضحية والتلذذ بمتابعته وهو يتألم في موقف ضعف، والإصابات التي تم الإعلان المبدئى عن مناظرتها على جثة الضحية تعطى انطباعًا بوجود هذا السلوك أكثر مما تعطى انطباعًا بمصطلح «تعذيب» الذي تم استخدامه بتعجل من وسائل الإعلام، وعن السؤال الثانى الخاص بعملية القتل السريع فقد كان في هذا التحليل العديد من الإشارات عن سبب ارتكاب جريمة القتل بسرعة وجميعها في سياق ما ذكرناه عن طبيعة الخلية المبتدئة العشوائية، وهذا النوع من الخلايا يمكنه بالفعل ارتكاب مشهد العملية الأول والنجاح فيه وهو فعل الاختطاف وبعده الاحتجاز، لكنه سرعان ما يجد نفسه مشوشًا ما بين العديد من آراء أعضائه حول سؤال الخطوة التالية خاصة مع إضافة عامل التوتر السريع الذي يضرب مثل تلك الخلايا عندما يجدون أنفسهم وجهًا لوجه أمام موقف بهذا الحجم، ويكون الحل السريع والجاهز لديهم هو التخلص من هذا الموقف برمته.
السيناريو الثانى لهذه الحادثة يأخذ طابعًا جنائيًا، لنجد نموذج جرائم الخطف من أجل السرقة أو طلب الفدية، وفى الجريمة الجنائية دائما ما يكون هناك خطأ في التخطيط أو افتراض غير صحيح هو ما يؤدى حتما لفشل الجريمة، وأظن هذا الأخير تمثل في عدم جمع التحريات الوافية حول الضحية لمعرفة أنه شخص عادى، والمعلومات التي خرجت بعد الحادث لا تدل على إمكانية توافر مبالغ مالية كبيرة لديه، وهو ما قد يكون وصل إليه الخاطفون بعد تلك الفترة من الاحتجاز، فأصابهم الإحباط رغم تكرار الاعتداء عليه وإحداث إصابات سعيًا منهم إلى قهر الضحية وظنًا منهم بأن هذا سيدفعه إلى الاستجابة لمطالبهم.
وتتماثل نهاية السيناريو الجنائى مع نظيره الإرهابى في مشهد النهاية المتوتر والمرتبك والذي يحمل عنوانا واحدا هو السعى نحو التخلص من الموقف بكامله من خلال ارتكاب جريمة قتل يتبعها التخلص من الجثة.
الفرضيتان اللتان تسللتا إلى بعض من وسائل الإعلام منها المحلية والبعض منها دولية وكانتا مثارًا لحديث صاخب في وسائل التواصل الاجتماعى، الأولى افترضت أن الجريمة قد وقعت على خلفية كون الضحية الإيطالى له ميول مثلية، والثانية سارعت بإلقاء الاتهام في وجه الأمن المصرى واستندت في ذلك إلى نشاط الضحية في متابعة النقابات المستقلة وكتابة مقالات ربما تصنف بأنها ضد النظام الرسمى المصرى، الفرضية الأولى أستبعدها بشكل كبير لوجود اعتداءات وإصابات عديدة ظهرت في التقرير التشريحى للجثة، وفى الغالب الأعم من تلك الحوادث التي تقع فيما بين المثليين أحيانا يكون القتل فيها مفاجئًا وبفعل واحد.
وتبقى محاولة الزج بالأمن المصرى كأحد متهمى الواقعة هي الفرضية التي أستبعدها بشكل مطلق، فسياق أخطاء أو تجاوزات الأمن أيًا كانت صورتها تبتعد تماما عن ارتكابها بحق شخص له هذه المواصفات التي سبق ذكرها، أقل ما يمكن قوله فيها إن الاشتباه في شخصية تحمل جنسية أجنبية من الناحية الأمنية تستلزم القبض عليه أو احتجازه، ويستتبعها على الفور في حال تنفيذها مشاركة العديد من أجهزة الدولة الأخرى في العلم بخلفيات هذا الاشتباه أو التشكك في نشاطه، منها على سبيل المثال وزارة الخارجية وآخرون حتى وإن أتمت وزارة الداخلية عملها في التحقيق والتثبت من شكوكها وحدها دون مشاركة من آخرين، فليس متوقعًا على الإطلاق أن يقوم الأمن بقتل ضحية كان بحوزته حتى ولو على سبيل الخطأ وتدبير هذا السيناريو المتهالك في التخلص من الجثة وما جاء بعده من أحداث.