د. سمير جرجس وداعًا
بقلم: عزت بولس
الرحيل للأحباء بالموت أحد أكثر المواقف صعوبة لقلمي عندما يتحرك للكتابة، حيث تفقده قسوة الرحيل الكلمات وتعجله عاجزًا عن التعبير عن مدى الحب والتقدير الذي أحمله لذلك المحب، الذي أصبح بفعل الموت راحل وذكري بالقلب والذهن.
بالصباح الباكر أمس استيقظت على خبر مؤلم لا بل فجيعة بالنسبة لي ألا وهو رحيل د. سمير فوزي جرجس أستاذ التاريخ القبطي، والذي قدم على مدار سنوات طويلة مجهودًا بحثيًا شاقًا للكشف عن حجم وطبيعة الدور القبطي-المصري- لنشر المسيحية في سويسرا والبلدان المجاورة لها، تلك المجهودات الأمينة التي كللت بكل نجاح أرضي ممكن، فقد كانت أبحاثه موضع تقدير كبير من كافة الهيئات الدينية بسويسرا لمختلف الطوائف إضافة للحكومة السويسرية ذاتها.
د. سمير جرجس هو من أوضح لمثقفي سويسرا عبر أبحاثه الدور الإيماني وغيره للقديسة"فرينا" والقديس"موريس" عند قدومهم لسويسرا مع الكتيبة "الطيبية" وكيف أنهم كانوا أقوياء وشجعان بإيمانهم الغير متزعزع، كما كشف عن الأصول القبطية القديمة لأسم القديسة" فرينا" والتي تعني البذرة أو ثمرة الأرض،إضافة لذلك فقد نشر العديد من الدراسات عن القديس"فيكتور" والذي يتداول أسمه بين المسيحيين بمصر بـ"بقطر".
وسط كل ذلك العمل الدءوب الذي أنتج اكتشافات تاريخية ساعدت كثيرين على المزيد من الفهم والوعي بالتاريخ،أصدر راحلنا العزيز الكثير من الكتب الدراسية للمخطوطات القديمة التي تتحدث عن الأقباط ودورهم التنويري بأوربا تاريخيًا،مترجمًا إياها للغتين الإنجليزية والألمانية للأجيال الجديدة التي لا تتقن العربية وللمواطن الأوربي، وقد كان يستغرق العمل الواحد من كل تلك"الإنجازات" سنوات طويلة من الإعداد،فعلي سبيل المثال قد أستغرق العمل بإعداد سبع مجلدات" الموسوعة القبطية" نحو عشر سنوات، تلك الموسوعة التي تستحق الفخر من كل قبطي-مصري- سواء كان مسلم أو مسيحي.
لكل إنسان إيجابي بمجاله المهني جانبين أولهم يمكن للجميع الإطلاع عليه عبر ماينتجه مهنيًا، والثاني شخصيًا يكون من حظ البعض فقط الاستمتاع به متى كان مضيئًا كالجانب المهني،ولحظي السعيد فقد عايشت الجانبين بحياة راحلنا العزيز د. سمير حيث كان أول لقاء بيننا صدفة داخل محطة"زيورخ" الرئيسية وذلك في السنوات الأولى لقدومي لسويسرا،ولكن منذ تلك الصدفة الجميلة لم تنقطع صلتي بتلك الشخصية العظيمة.
لمست عن قرب وبمشاهدات حقيقية حجم"إنسانية" ذلك الرجل الذي يحمل من الإنسانية أجمل معانيها،فهو محب إلى أخر مدى للحب، لا يفرق في عطاءه بين البشر لعقيدتهم أو جنسيتهم أو فكرهم أو أي شيء يميزهم عن بعضهم البعض الإنسان لديه يستحق الحب لأنه فقط إنسان.
التواضع صفة يكتسبها الإنسان بصعوبة خاصة إذا كان ناجحًا وقويًا ومبهرًا لمن حوله،وراحلنا العزيز رغم كل نجاحاته فقد كان أنموذج لـ"التواضع" بل أنني أكاد أجزم بأنه أكثر من قابلتهم بحياتي تواضعًا على الإطلاق،وتواضعه ذلك كان يظهر جليًا بحجم خدماته للآخرين، وتحديدًا لأولئك المصريين القادمين لسويسرا حديثًا، ولديهم مشكلات ويحتاجون لترجمة أيًا من أوراقهم للألمانية وتوثيقها رسميًا، كان يساعدهم جميعًا دون مقابل أو تمييز فيما بينهم وقد كنت واحدًا من هؤلاء الذي ساعدهم ذلك الراحل العظيم.
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كانت دائمًا بقلب راحلنا العزيز د. سمير ولهذا قضي السنوات مدققًا في كل معلومة يكتبها عن دورها الإيماني داخل سويسرا بشكل منظم أكاديمي لايمكن معه لأي باحث التشكيك في مدى صدقه، ذلك المجهود كنت أجده مسروقًا حيث أعثر على كتيبات تحوى مجهود د. سمير البحثي موقعه بأسماء آخرين دون الإشارة من قريب أو بعيد لصاحب المجهود الحقيقي، وأتذكر أنني ذهبت إليه ذات مرة بالحقيقة تلك التي اكتشفتها فكانت إجاباته لي "شوف نحن جميعًا مدينون لهؤلاء القديسين بما قدموه لنا، وهو ليس حكر على، لقد استشهدوا وقدموا حياتهم في سبيل معتقداتهم، ونحن فقط مثل الطفيليات عايشين الآن على ما بذلوه هم من تضحيات".
ورغم عدم اقتناعي الشخصي بأن يسطو آخرين على ثمرة تعب وكفاح د. سمير آخرين ويلصقون به أسمائهم إلا أن علامات الرضا التي كنت أراها على وجه ذلك الرجل من سلوك هؤلاء كانت تثير إعجابي وتُزيد من محبتي له وتؤكد حجم تواضعه.
نشاط راحلنا العزيز د. سمير بسويسرا لم يقتصر على العمل الأكاديمي بل ساهم مع الراحل د. كمال جرجس في إنشاء عدد من الكنائس القبطية بسويسرا بقطاعاتها الثلاث،وقد استطاعا الراحلين معًا عام 1985 أن يجدا مكان دائم بأحد أكبر أديرة سويسرا"اين سيدلن" للكاهن القبطي الذي يأتي لسويسرا للخدمة الدينية،وكنت معاصرًا لذلك النجاح الكبير والذي تحقق بعد عدد كبير من المراسلات بين راحلنا العزيز والحكومة السويسرية.
فراقك د. سمير صعب وقاسي، فأنت كنت علامة يفخر بها كل مصري داخل سويسرا سنفتقدها كثيرًا، ولكن عزائنا بأنك ستظل حي داخل قلوبنا وبيوتنا ومكتبات العالم بأعمالك العظيمة التي قدمتها عن التاريخ القبطي.
الكلمات يؤلمني استخدامها الآن لرثاء رجل كان يعيش بتواضع العظماء...رجل محب للجميع فأحبه الجميع ...رجل لم تحكمه الماديات فأنتج وأبدع وأعطى للحياة...رجل سامح عديمي الانتماء صانعي الصغائر المؤلمة فأعطى لمن حوله الأنموذج الصحيح للمسيحي الإنسان بحق.
عزيزي د. سمير كم سعدت بمعرفتك وبتأثيرك الإيجابي بكافة مناحي حياتي،والآن لا يسعني إلا أن أقدم العزاء لأسرتك الكريمة طالبًا من الله أن يشملهم برعايته في تلك الأوقات العصيبة، ويقدم لهم العزاء من سماءه لقلوبهم وكلنا ثقة أنك الآن بين أحضان القديسين فاذكرنا أمامهم إلى حين لقاءهم معك.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :