بقلم: مينا ملاك عازر
يُعد العدوان الثلاثي الذي شنته "إنجلترا" و"فرنسا" و"إسرائيل" على "مصر"- والذي يحل ذكراه الرابعة والخمسين يوم 29/10 - من الحروب التي يتوقف أمامها كل محلل سياسي وعسكري طويلاً، فهي حرب كادت تؤدي لحرب نووية أو عالمية على أقل تقدير، واشترك فيها أربعة كان ثلاثة منهم ضد طرف واحد، وتشابكت فيها الحقائق، واختلق الكثيرون الزعامة، واختلف الكل حول أسباب ودوافع كل طرف من أطرافه الثلاثة الذين شنوا الحرب على "مصر".
فهناك من رأى أن دوافع "إسرائيل" الإستعمارية والتوسُّعية توافقت مع رغبات "إنجلترا" الانتقامية لانتهاء احتلالها لـ"مصر" ومن بعدها شركة قناة السويس التي أمّمها "ناصر"، والتي توافقت بدورها مع رغبة "فرنسا" الانتقامية من نظام افقدها سيطرتها على قناة السويس، وأزعجها بمساعداته المستمرة لثوار "الجزائر" بالمال والعتاد والمساندة السياسية.
وقد يقول البعض أن الجميع كان يريد الإطاحة بـ"ناصر" خشية من أن يكون الناهض بـ"مصر". وهناك من كان يرى أن الهدف فقط هو استنزاف شحنة الأسلحة السوفيتية التي اشترتها "مصر" في سبتمبر من عام 1955، وكانت أسلحة حديثة سقطت كلها في قبضت الإسرائيليين قدموها لـ"أمريكا" ليتفحصوها.. أيًا كانت الأسباب فقد قامت الحرب، واحُتلت "سيناء"، وقاوم البورسعيديون مقاومة الأبطال ضد جيوش وأساطيل "إنجلترا" و"فرنسا" مقاومة الأبطال، ولم يكن للدولة دور يُذكر. ويقول المشير "أحمد إسماعيل"- أثناء ذهابه لـ"بورسعيد" بعد العدوان الثلاثي- لأحد مرافقيه: إنه لو كان من شعب "بورسعيد" بعد ما جرى لهم وما قاسوه على أيدي الدولة سيضربهم بالأحذية، قاصدًا إنه يتوقع ضربه بالأحذية حال وصوله "بورسعيد". طبعًا شيء من هذا لم يحدث، لكن ما قاله المشير "إسماعيل" دلالة فقط على قصر يد الدولة المصرية حيال أزمة رهيبة كالتي حدثت.
ولن نركز على الجانب الداخلي من العدوان الثلاثي، فنحن الآن بصدد تحليل المواقف الخارجية منه، يرصد لنا التاريخ أن السوفييت تدخلوا بحزم إزاء ذلك، حيث أرسلوا البرقيات لعواصم "إنجلترا" و"فرنسا" و"إسرائيل" يقولون فيها: إنهم سيضربونهم بالصواريخ النووية إن لم يتم الانسحاب من "مصر"، وهو أمر كان مزعج لتلك البلاد التي لم تكن ولا "أمريكا" نفسها تمتلك في تلك الفترة القدرة على قصف ثلاث مدن بالصواريخ طويلة المدى، كما كان يمتلك الإتحاد السوفيتي. ولكن الحقيقة أن أحد من هذه الدول لم يتأثر بتلك التهديدات السوفيتية، فلم تثني أحد عن موقفه، غير أنه للتاريخ قد تأثر "بن جوريون" رئيس وزراء "إسرائيل" بالتهديد السوفيتي، ليس لخطورته بل لأنه وجد أن صياغة التهديد ليست كالصياغة التي أرسلت لـ"إنجلترا" و"فرنسا"، فشعر أن في ذلك تقليل من شأن دولته.
أما "الولايات المتحدة الأمريكية"، فكان موقفها يتفق مع السوفييت في الرغبة من حيث الانسحاب، لكن يختلف في الطريقة؛ فهي لم تهدِّد بل فعلت، حيث ضغطت على "إنجلترا" بإضعاف عملتها الإسترليني بإجراءات اقتصادية لا داعي لشرحها، لكن كان من شأنها أن طلبت "إنجلترا" من "أمريكا" التدخل لإنقاذ عملتها، فرفضت "أمريكا" إلا بعد الانسحاب من "مصر". وكما نعلم أن انسحاب طرف واحد من المؤامرة الدولية يضعف باقي الأطراف.
ويذكر التاريخ أنه حينما شدَّد "أيزنهاور" على "إسرائيل" بالانسحاب، قال له أحد الحاخامات: إن اليهود مستائون من موقفه، وألمح له بأن الانتخابات الرئاسية ستُقام بعد يومين، فقال له: إن من ينتخبني هم الأمريكيون وليسوا اليهود، ونجح "أيزنهاور" ولم يهمه الضغوط التي مارسها يهود "أمريكا" عليه وعلى إدارته. ولكن لكم أن تعلموا أنه وعد "إسرائيل" التي انسحبت في مارس من عام 1957 من سيناء، بأن تبقى مضايق تيران مفتوحة لهم للملاحة الحرة البريئة، ولم يعلن النظام المصري أن السفن الإسرائيلية تمر من المياه الإقليمية تحت سمع وبصر منه لمدة 11 عامًا، حتى قامت حرب يونيو لإغلاق "مصر" المضايق في وجههم، واستندت حينها "إسرائيل" للوعد الرئاسي الأمريكي لإرغام إدارة "جونسون" على البقاء صامتة حيال هجومها على "مصر" في1967.
أما عن نتائج العدوان على الصعيد الدولي، فقد سقطت "إنجلترا" و"فرنسا" من مصاف القوى العظمى، وانفردت "أمريكا" و"الاتحاد السوفيتي" بالصراع وجهًا لوجه دون منافسين آخرين، وتراجعت هيبة الأسد البريطاني الجريح، وترنحت "فرنسا" طويلاً إلى أن أنقذها "شارل ديجول" فيما بعد، وخرجت "إسرائيل" بمكسب ضمان مرورها الحر البريء من المضايق المائية المصرية.. وأما "الاتحاد السوفيتي"، فظهر بمظهر المنقذ لـ"مصر" بعد تصوير النظام المصري لذلك، مما أغضب "أمريكا"، وكسب أيضًا أن النظام المصري عاد واشترى منه أسلحة بديلة عن تلك التي خسرها في حرب العدوان الثلاثي، وضعفت علاقة "مصر" مع "أمريكا" بسبب تهويل "مصر" من دور السوفييت وتجاهلها للدور الأمريكي، وصارت الحرب الباردة حربًا بين زعيمين لمعسكرين لا ينازعهما أحد في الزعامة هما "الولايات المتحدة الأمريكية" و"الاتحاد السوفيتي".