بقلم: أسامة نصحى

ما تعيشه الشعوب العربية الأن فيما يخص علاقتها بالدين والتدين هى حالة أقرب الى حالة الهوس والتى تتنافى كليا مع رسالة الاديان ومنهجها لخدمة البشرية فالصورة اصبحت قاتمة وتشتد قتامة يوما بعد يوم فى ضوء تصاعد التطرف والتشدد الذى يصل عند البعض الى مرحلة اخطر وهى العنف والارهاب .

عندما حضرت الى اوروبا قبل أعوام قليلة لم اجد الازدواجية الحادة التى نعيشها فى العالم العربى ...لم أجد من يتحدث عن الوحدة الوطنية أو ان اتباع هذا الدين اخوة لاتباع الدين الاخر بل وجدت واقعا مطبقا بالفعل ..اناس مختلفون ينتمون الى اعراق واديان مختلفة ومظاهرهم مختلفة ورغم ذلك يعيش المجتمع حالة من الاستقرار والتسامح وقبول الاخر بشكل عملى لا يسأل احد عن ديانة الاخر وينفى اى انسان بشدة عن نفسه تهمة العنصرية ويحاول جاهدا ان يثبت لك انه يحترم الانسان لمجرد كونه انسان .

أما الواقع فى العالم العربى مختلف جذريا نتشدق بالتسامح والوحدة الوطنية ويزور كبار المسئولين دور العبادة للاقليات الدينية ويظهر على وجه التحديد شيخ الازهر وبابا الكنيسة القبطية فى مناسبات عديدة يتبادلون الود والتهانى فى الأعياد ..اما واقع الشارع المصرى مختلف للغاية فهناك محافظ قبطى منع من تولى منصبه بسبب ديانته حتى فرض المتشددون ارادتهم وتم استبعاده ومؤخرا طالبات مدرسة فى المنيا يضربون عن الدراسة لكون المدرسة قبطية الى جانب سجن المفكرين والكتاب بتهمة ازدراء الاديان وحبس اطفال لتمثيلهم مشهد يسخر من تنظيم داعش الارهابى وحوادث اخرى عديدة على مر الزمان شملت حرق دور العبادة ومنع تولى مناصب بسبب الديانة.

وانا أطرح هذه القضية ليست من منظور طائفى بل من منظور انسانى حقوقى ..ان عودة العالم العربى الى علاقات متوازنة صحية وسلمية مع الدين سيقود المجتمعات العربية الى الاستقرار والسلام والتنمية ..هذه هى الحقيقة الغائبة .

ان الخطاب التحريضى الطائفى هو سبب كل البلاء فى مصر والعالم العربى وقاد الى جعل الانتماء الى الطائفة يفوق الانتماء الى الاوطان وجعل المنطقة تقترب الان من حروب أصعب على أسس مذهبية بسبب طمع بعض الدول فى فرض مذهبها وتأسيس دويلات دينية وتفتيت دول المنطقة على أسس طائفية .

وأظن فكر المؤامرة السائد بشكل كبير فى العالم العربى قد فاقم مشكلة الهوس الدينى خاصة مع اعتقاد قطاع وشريحة غير صغيرة بان هناك مؤامرة على الدين من الاديان الاخرى او ان العالم الغربى حاقد على المنطقة العربية ويخطط لاضعافها وكأنها امة ناهضة مثار غير وحقد من الدول الأخرى .

وعند تجربة حقيقية وواقعية لمستها من التعامل مع الاوروبيين فليس هناك حقد على الديانة الاسلامية على وجه التحديد – كما يحاول ان يصور البعض – بل هناك بالفعل احترام كبير للدين الاسلامى فى دولة النمسا التى اعيش بها وكل ما يعنى هذه الدولة احترام القانون والحريات العامة والشخصية .

ولا يشغل الاوروبيون تعداد المسيحيين او تعداد المسلمين أو من ينمو أكثر او من سيتفوق فى التعداد ولا يشغل بال احد من يتحول من ديانة الى اخرى .

اما الواقع المؤسف فى مصر والعالم العربى ان تغيير انسان لديانته فى مصر كفيل بطرده من اسرته ومن قريته ونشوب معركة قد يقع فيها العديد من القتلى وهذا الامر تكرر كثيرا فى احداث كثيرة أشهرها احداث امبابة فى عام 2011 .

نفس الشىء فى العلاقات العاطفية بين مختلفى الديانة ففى اوروبا لا يتدخل احد فى علاقة عاطفية بين شخصين مهما وصلت درجة الصلة والقرابة بهما بينما نجد فى مصر علاقة المسلم بالمسيحية موضع فخر وتباهى وانتصار للطرف المسلم وتحظى بمساندة مجتمعية وبمكافأة مادية فى بعض الحالات من بعض الجهات الدينية المتشددة .

اما علاقة المسيحى بالمسلمة فهى كارثة اجتماعية وتهدد بنشوب معركة ووقوع قتلى بعد مواجهة مسلحة بين بعض قرى بكاملها واحيانا لا تكون علاقة من الاساس وانما مجرد شائعة تزهق بسببها الارواح وقد حدث ذلك بالفعل خاصة فى اسيوط والمنيا فى حوادث شهيرة .

 ان التخلص من الهوس الدينى ومن التصور الخاطىء بأن العلاقة بين الاديان هى حلبة مصارعة يسعى كل دين فيها ان ينتصر ويسود ويخطف الاتباع من الدين الاخر هو بداية الاصلاح واعرف مقدما ان العلاج صعب ولكن اشتداد الازمات يفرض التفكير الاكثر جدية لايجاد الحلول العاجلة .

وليس اخطر من المرحلة الحالية لعلاج الهوس الدينى ..فالمرحلة الحالية وصلنا فيها الى الحروب والاقتتال الاهلى المستمر على اسس دينية وطائفية ووصلنا الى مرحلة ترويع وتهديد الأمنين من خلال قنابل بشرية تفجر نفسها وهى راضية مؤمنة كل الايمان انها تفعل مايرضى السماء عنها وان هذه الاعمال الاجرامية جزاؤها الجنة والنعيم .

ان الفرز الطائفى كارثة بكل المقاييس ..رجل الشارع العربى لا تعنيه القيم والفضائل التى حثت عليها الاديان والخطاب الدينى الهادىء المتسامح الذى يقبل الاخر لا يستهويه بعدما اصبح مولعا بالخطاب المتشدد الذى يركز على معرفة ديانة الشخص قبل افعاله والذى يركز على المظاهر الدينية من الملبس والشكل واستخدام التعبيرات الدينية والتحية الدينية والاقوال الدينية .

اما القيم المشتركة بين الاديان فلا تلقى القبول ولا اى ارضيات تجمعه مع الاديان الاخرى مثل القيم الاخلاقية والسلوكيات والاعمال الحسنة ..وصار الشغل الشاغل هل أهنىء الاخرين باعيادهم ؟ وهل يجوز الترحم على موتاهم ؟ وغيرها من صغائر الامور التى تصب فى خانة الشحن الطائفى والهوس الدينى.

يتهم الشرقيون والعرب خاصة الاوروبيين بالانحلال والانحراف وغياب الدين والواقع ان الاوربيين مازالوا ملتزمين بجوهر الاديان وليس الشكليات المنتشرة فى العالم العربى فنجد فى اوروبا الاتقان فى العمل وصدق الوعود واحترام كرامة الانسان ونبذ الطائفية او الاستعلاء الدينى او العرقى .

اما الدول المتدينة فهى متدنية فى كل شىء وابعد ما يكون عن جوهر الاديان ولا تتخذ من الدين الا التمايز فى المظهر والاستعلاء على الاخر وشحن البسطاء بان مؤامرة وهمية تخطط للنيل من الدين وكان من الطبيعى وفق ذلك ان تظهر الجماعات السياسية التى تتستر باسم الدين وتحاول ان تحقق مكاسب دنيوية ومادية عن طريق استغلال الدين ودغدغة مشاعر البسطاء من الغيورين على الدين .

ان التخلص من حالة الهوس الدينى هى بداية الاصلاح ليعود الدين الى دوره الطبيعى فى الارتقاء بسلوكيات البشر وليس عداء المختلفين ولن يتحقق ذلك الا بتعليم جيد وتنقية التراث والالتزام بالمواثيق الدولية للحريات وحقوق الانسان وبخطاب دينى جديد يقوم على التسامح وقبول الاخر وان يتوقف الاعلام المغرض عن التحريض على الاخر وبذلك يعود الاستقرار والسلام لمجتمعاتنا واظن ان الوقت صار ضيقا والتحرك يتطلب السرعة قبل ان تقودنا الافكار البالية والتفسيرات المريضة للنصوص الدينية الى بحور لا تنتهى من دماء الابرياء.