بقلم: محمود كرم
الإنسان عموماً من خلال التعبير عن ذاته قولاً أو فكراً أو سلوكاً أو توجهاً، يسعى في حقيقة الأمر إلى الإعلان عن حضوره الذاتي على مسرح الحياة والواقع، ومهما تفاوتت مستويات هذا الحضور ودرجاته، إلا أنه في حقيقته يعكس هاجس الإنسان، وطبيعته وماهيته وتكويناته الثقافية ويعكس قلقه وهوسه أيضاً، وحتى ربما فلسفته الخاصة، وللحضور صور وأشكال وأنماط عدة، تتمظهرُ عادةً في الأسلوب والطريقة التي يريد بهما الإنسان أن يثبت حضوره بمختلف مستوياته الذاتيه والرمزية والثقافية والهوياتية والاختلافية والشعورية..
وليسَ هناك أكثر قلقاً بالنسبة للإنسان سوى أنه يريد أن يكون أبداً مفعماً بحضور كامل وطاغٍ في الوقت نفسه، إنها حالةٌ من نشوة التوجسات الشعورية المتدافعة والمرتفعة تجعله يشعرُ أنه يتغلب على أي شعور بالتراجع أو الخوف أو النقص، فما يقلق الشخص الذي يفور برغبةٍ عارمة في الحضور التام، أن يشعر بالتراجع أو التردد أو النقص أو الهشاشة، لأن ذلك يقلّل من اكتمال حضوره أمام مَن يهتم لأمرهم ويهتمون لأمره، أليسَ السياسي مثلاً يريد دائماً أن يكون مستعداً للحضور الكامل حين يكون تحت الأضواء الساطعة وفي مواجهة فلاشات الكاميرات، إنها رغبته العميقة الدافعة التي تجعله ينتصر على أي خوفٍ أو نقصان قد يقلّلان من قيمة حضوره، فلا يريد إلا أن يكون حضوره أمامهم حضوراً تاماً وطاغياً واستحواذياً في الوقت نفسه، وأليسَ لاعب كرة القدم النجم هو الآخر يسعى دائماً إلى أن يكون متألقاً في حضوره الخلاق والمبدع أمام جمهوره، وأيُّ اختلال في أدائه يصيبه بالقلق والحزن والأسى، فدائماً ما يريد أن يكون حضوره في ساحة اللعب مبهراً ولافتاً، ولا يستطيع إلا أن يكون كذلك، فالحضور الإبداعي أمام مشجعيه بالنسبة له هو رغبته الجامحة في أن يتكامل بذلك الحضور حضوراً يزيده ألقاً ومتعةً أمام محبيه، وأليسَ نجمة الإغراء في عالم السينما تسعى دائماً إلى أن يكون حضورها باهراً وآسراً ولا يزيدها ذلك إلا ابتهاجاً بحضورها الاستحواذي على نظرات معجبيها ؟ وأليسَ الكاتب والشاعر والمبدع والفنان مسكونينَ أبداً بهاجس الحضور، الحضور الذي يدفعهم إلى اعتلاء قمة كل مجد، ولا يقلقهم سوى أن يكونوا قمة كل حضور، لأنهم يريدون بذلك أن يمارسوا حضورهم هذا كما لو أنهم تماماً في قلب المشهد الثقافي، يمتلأ بهم ويمتلئون به حضوراً وتحقيقاً بالتالي لذاتهم الإبداعية، وأيُّ نقصان أو تراجع في هذا الحضور فإن ذلك يشعرهم دائماً بالتوتر والقلق والتوجس والاكتئاب والحزن، وأليسَ العاشق المتيّم والمستهام يستبدُ به العشق إلى درجة أنه يشتعل معه برغبةٍ وامضة تدفعه للمثول حضوراً أبدياً أمام المعشوق، رغبته في هذا الحضور تساوي كلياً رغبته الجذلى في أن يكون حضوره كاملاً وآسراً وخلاباً وحتى مهيمناً وطاغياً، إنه بهذا بالحضور المتوثب في أعماقه، المُلهم لعواطفه ومشاعره وأحاسيسه يزداد تألقاً ودهشة وإبداعاً، ولذلك فإن ما يصيبه بالأسى والعذاب والاكتئاب أن يكون في حضوره هذا دون مستوى حضور العاشق الكامل في كل جوانبه..
فالإنسان في مختلف أنساقه وأنماطه الحياتية يساوي حضوره، يساوي مستويات ودرجات حضوره، وبحضوره يحقق ذاته، يحقق طموحه وأحلامه واهتماماته، وعادةً ما تكتسي أفعاله وأقواله وتحركاته وتوجساته نزوعاً عميقاً نحو التأكيد على حضوره، تفعيلاً لحضوره الذاتي على قيد الفعل الحياتي، ولكن هناكَ ثمة حضور آخر، إنه الحضور الذي أصبح يتبنّى فلسفة الوعي التنويري، الحضور الذي يجد فيه الإنسان تحقيقاً واعياً لوجوده الذاتي، إنه سعي الإنسان نحو التأكيد على وجوده الاستيعابي المُدرك لأبعاد تكويناته الذاتية والذي من خلاله يعلن عن حضوره، فحضوره هنا يتماهى وعياً وتطلعاً وحماساً ورغبةً وانفعالاً مع وجوده، ووجودهُ لا بد وأن يندرجُ انعكاساً في تمثلات حضوره، إنه الحضور المحض للذات في تفردها الشاخص بالذاتية، لهذا الحضور جماله الخاص، وأسلوبه المميز، ومتعته الفائقة، وممارساته التفكيرية، واسهاماته الإنسانية، وانحايازاته الواعية الجادة للإنسان والعقل والإرادة والتفكير، إنه الحضور الأكثر حضوراً وجودياً في مشهدية الذات، بهذا الاستيعاب الوجودي الخلاق لذاته يُعلن عن حضوره فكراً وتفكيراً وثقافةً وتطلعاً، وربما في قول الروائي ميلان كونديرا ايجاز عميق بماهية هذا الحضور ( إذا لم تكن موجوداً، فلا تستطيع أن تكون حاضراً )..
فبعد غياب الإنسان الطويل عن صناعة ذاته وحريته واستقلاليته واختياره ووجوده وتفكيره وإرادته ومصيره، جاءت جهود التنوير الفكري لتساهم عميقاً في التأكيد على ذاتية الإنسان الصانعة والمُدركة لحضورها الذاتي على مسرح الحياة، وكل الجهود الفكرية التنويرية انصبّت على أن الإنسان في الأساس يساوي حضوره الإرادي والتفكيري والنقدي والتساؤلي، إنه حضوره الذاتي ذلك الذي يصنع وجوده وتفكيره ومستقبله ومصيره، إنه حضور الإنسان في جوهره وفي أصل إرادته الحرة وفي استقلالية تفكيره وفي كل مستوياته الجوهرية الإنسانية، أليسَ حضور الإنسان يعني غياب المقدّس، وأليسَ حضور العقل يعني غياب الوهم، وأليسَ حضور العلم يعني غياب الجهل، وأليسَ حضور السؤال يعني غياب التلقين، وأليسَ حضور التفكير يعني غياب الانقياد، وأليسَ حضور الإرادة يعني غياب التبعية، وأليسَ حضور الشك يعني غياب اليقين، وأليسَ حضور الوعي يعني غياب الجهالة، وأليسَ حضور الحياة يعني غياب الموت، وأليسَ حضور التسامح يعني غياب التعصب، وأليسَ حضور الحب يعني غياب الكراهية، وأليسَ حضور الجمال يعني غياب القبح..
هذا الحضور الإنساني التنويري، ينتصرُ دائما لإنجازاته المعرفية والفكرية الخلاقة وينتصر لفتوحاته الثقافية وينتصر للحياة الحرة الخلاقة، لأنها إنجازات الإنسان في حضوره الإبداعي والفلسفي والعقلاني الحر، ينتصر للتفكير ضد اللاتفكير، ينتصر للعقل ضد الوهم والخرافة، ينتصر للاستقلالية ضد ثقافة الاستلاب والقطيع والتبعية، إنه لا يستطيع إلا أن ينتصر لحضور الإنسان هذا، لأنه الحضور الشاخص المتفرد ضد الهشاشة والجهل والوهم والظلام والخواء والتفاهة والقبح، ولأنه الحضور الوامض بحضور الذات الواثقة والمفكرة والناقدة، ولا يستطيع هذا الحضور إلا أن يكون حاضراً بكل حضوره الحر والعقلاني، إنه يأتي منتصراً للعقل بحضور العقل، ويأتي متوهجاً بالتفكير بحضور التفكير، ويأتي مفعماً بالتغيير بحضور التغيير، ويأتي شاخصاً بالضوء بحضور الضوء، ويأتي ممتلئاً بالحياة بحضور الحياة، هذا الحضور يزداد إدراكاً وإرادةً ووعياً في مستوياته الحضورية، ولذلك ليسَ في حسابات هذا الحضور أبداً التراجع لصالح الوهم أو الخرافة أو الجهل أو التخلف أو التعصب أو التفاهة أو القباحة، ويبقى دائماً متواجداً باندفاعاته الحضورية العقلانية والفكرية والتنويرية..
وما أجمل حضور الذات الحرة في صرخة الفيلسوف الهندي كريشنامورتي، حين أعلن من خلالها عن حضور الحياة في حضوره الحر، إنه الحضور الطافح بروعة الحياة الحرة : لا إسم لي، أنا مثلُ نسيم الجبال العليل، لا ملجأ لي، أنا مثلُ المياه المتدفقة، لا كتب مقدسة لي، ولست في البخور المتصاعد من المذابح ولا في أناشيد الطقوس، لست مُحاصراً بالنظريات ولا مُفسَداً بالمعتقدات، ولا موثوقاً بسلاسل الأديان، ولستُ في الأعلى ولست في الأسفل، أنا العاشق إذا عشقت، أنا حر، وأغنيتي هي أغنية النهر المتدفق على هواه منادياً المحيطات المفتوحة: أنا الحياة..