القس يعقوب عماري
شدّ انتباهي في إحدى رحلاتي إلى بلدٍ أوروبي أن مواطني تلك الدولة هم أربعة شرائح كبرى تشكّل معاً نسيج الوطن، ولاحظتُ أنّ لكلّ شريحة منها لغتها الخاصة بها، والشرائح الأربعة كلّ منها يمثّل قومية أو خلفية غير الأخرى، واللغات الأربعة جميعها معاً تمثل اللغات الرسمية المعتمدة في الدولة، فالجرائد في نشراتها اليومية تغطي لغات البلد الأربعة، والأخبار في الراديو أو التلفاز تنطق باللغات الأربعة، وإعلانات الدولة وكتبها الرسمية تُنْشر باللغات الأربعة، فأنت حين تقع ورقة إعلان في يدك، تجد عليها أربعة لغات تتحدث عن ذات الموضوع.

ثمّ دينياً في ذات البلد فهناك الكاثوليكي من حيث الطائفة، وهناك البروتستانتي الإنجيلي، وهناك الأرثوذكسي، وربما غيرهم من أقليات أخرى، ولكن الكلّ يتعايشون منسجمين بعضهم مع بعض، لا أحد يُضايق الآخر أو يكفّرُهُ في عقيدته الدينية، ولا أحد يهزأ بلغة الآخر أو بخلفيَّته العرقية أو القومية، والجميع لهم حقوق متساوية في العيش الكريم، وعليهم ذات الواجبات، ولا أحد يتعالى على الآخر أو يدّعي الأفضلية على غيره أو يزايد عليه.

ومررتُ يوماً بمساكن للاجئين قدموا  إلى  هناك  من مختلف الدّول الشرقية والشرق أوسطية. ودفعني الفضول يوماً أن أتحدّث مع البعض منهم، فهؤلاء على اختلاف مراجعهم الدينية أو العرقية، ما أن دخلوا تحت سقف البلد المذكور حتى أصبحوا في أمان يُحترمون، ويُقدّم لهم المأوى والملبس والطعام، ولا تتدخّل الحكومة في عقيدةِ أو ديانة أيٍّ منهم، فهم بالنسبة إليها أُناس يستحقون الحياة، ومن يتعبّد لله فليتعبّد له كما يشاء، طالما هو لا يؤذي غيره، فتديّنُهُ بينه وبين ربّه لا علاقة لأحدٍ به.

أعجبني مستوى هذا الأسلوب في التعامل مع الإنسان، وأعجبتني مشاهد أخرى كثيرة لا يتسع المقام للحديث عنها. وتساءلت عن الأسباب والدوافع وراء مثل هذه الأنظمة والتشريعات الإنسانية، وطرحت السؤال على أحدهم وهو شرقي مقيم هناك منذ عشرات السنين، ويتحدّث بلغتي فقال: صدّق أو لا تصدّق، إن الدِّينَ هو أكبر مؤثر في سلوك وأخلاقيات ونمط حياة الشعوب تصديقاً لما ورد في الكتاب المقدس: "البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية".
قلتُ: ماذا تعني ؟  
قال: إن ما أثار عجبك في دولةٍ كهذه هو المسيحية بتشريعاتها الإنسانية السمحة.
قلت: لا أعتقدُ أن الجميع هنا ملتزمون دينياً.

قال: هذا صحيح، ولكن لا تنسى أن المسيحية عبر قرونها الطوال رسّخت مبادئ إنسانية في أجيالها المتعاقبة، فالتشريعات التي توافقوا عليها استمدّت إنسانيتها من روح الإنجيل حين كان الناس هنا أكثر تديّناً من اليوم، ومع توالي السّنين ترسخت كمبادىء للسلوك الإنساني فصارت منهج حياة  شربوه مع الحليب فامتزج بدمائهم جيلاً بعد جيل. والناس في بلدان كهذه تحترم القانون، وتقدّس النظام العام، وتحترم حقوق الآخر بغض النظر عن انتمائه الدّيني أو العرقي أو المذهبي. وسواء كان المواطن في هكذا بلد متديّناً أو غير ملتزم، فمنهج حياته يبقى هكذا  كما نشأ عليه منذ حداثته، تراثٌ تتناقله الأجيال.
قلت: ولكن أنت تعلم أننا في الشرق ندينُ بديانات سماوية لها حضارات عريقة.
قال: هذا صحيح، وما زال في الشرق الكثير من العادات والتقاليد الطيّبة، ولكن المشكلة في التطبيق الإنساني الفعلي لما تُنادي به العقيدة، فالبعض عندكم اتخذ من العقيدة مبدأ لمعادات الآخر ورفض الآخر وتكفير الآخر، والبعض في الشرق سحب البساط من تحت أرجل رجال الدّين، واتخذ له موقفاً يُعادي به الآخر ويكفِّره،  فالإشكالية  هناك تتمثَّلُ في من سرقوا الهوية الدينية وتصرّفوا على مزاجهم.
قلت: ولماذا سرقوا؟... قال: ليكون لهم غطاءً شرعياً يصلون به الى أهدافهم، وهنا يولد التطرف الديني الذي يلغي الآخر حتى ولو كان الآخر من ضمن الدّين الواحد! فقد مرّت الشعوب الأوروبية في حقبةٍ من الزمن بهذا الاختبار، وتمادت به إلى أن أدركت أن التطرّف في الدّين أو ما يمكن أن يُسمّى التعصب الديني غير حضاري، وليس من الدّين بشيء.

هذا الحوار ذكّرني بشيء، فقد عبثتُ يوماً بمؤشر الراديو أثناء فترة استرخاء، فاستقرّ المؤشر على برنامج ديني غير مسيحي دون قصدٍ منّي، فتوقفتُ عنده أستمع لمحاضرةٍ يلقيها أحدهم. واصلتُ الاستماع وقد أجاد المتحدّث في بعض ما قدّمه، وكنت أصغي بانتباه إلى كلّ كلمة يقولها. وفي لحظةٍ لم أتوقعها سمعتُ ما هزَّ مشاعري وآذى مسمعي، إذ في نهاية حديثه ختم المتحدّث خطابه بشتيمةٍ أصابتني في الصّميم وبلغةٍ عربيةٍ صريحةٍ شتم بها من سمّاهم بالنصارى الكفَّار!... فأنا عربيٌ مسيحيٌ أؤمن بربٍ واحدٍ لا إله سواه، وأعتزُ بعروبتي كما أعتز بمسيحيتي، والأغربُ أنه شتمَ من خلال إذاعةٍ رسميةٍ لبلده على علم بما يقوله، ومعي في عالمنا العربي اليوم ما يقارب الخمسة وعشرون مليون مسيحي عربي، يمكن لأي منهم أن يستمعَ صدفةً أو قصداً إلى ذلك الحديث الديني ويتأذّى!... أغلقتُ الراديو، وقد انتهى البرنامج على كلّ حال، وقلتُ لنفسي: أيُ نفعٍ قدّمه صاحبنا هذا لمستمعيه غير زرع الكراهية للآخر والتعالي والتعصّب عليه وهذا ما لا يقرّه الدّين!
ذكّرني هذا بحادثةٍ طريفة حدثت معي قبل سنوات.

خرجتُ ذات يوم جمعة لألقي عظةً دينية على جماعةٍ من المسيحيين، وبعدما باشرتُ السّير بسيارتي قاصداً الكنيسة لاحظتُ أمامي رجلاً يمشي متثاقلاً وينظرُ إلى الوراء، فأدركتُ أنه متعبٌ وبحاجة للعون، وكان الرجل ملتحياً ويرتدي ثوباً أبيض وعمةً على رأسه، فتوقفتُ بقربه وسألته: يا شيخنا هل لي أن أخدمك بشيء؟
ففتح الباب وشكر وجلس بجانبي وتنهَّد وقال: خرجتُ منزعجاً من البيت لخلاف جرى بين ابنتيّ والوقت يداهمني وأنا على نيّة أن أأمَّ اليوم بالمصلين في المسجد وأُلقي خطبة الجمعة!
فابتسمتُ لهذه المصادفة الجميلة، وقلت للشيخ: أتعرفُ أنك الآن في سيارة قسيس مسيحي ذاهب إلى كنيسته لكي يؤمَّ هو الآخر بجمعٍ من المصلين المسيحيين ويقدّم لهم خطبة الصلاة؟ كيف جمعتنا الأقدار لنلتقي معاً في مهمةٍ متشابهةٍ؟! ففوجئ الرجل وابتسم وشكر وعبّر عن تقديره، وتواصلنا بالحديث إلى مفترق طرقٍ يؤدي فرعٌ منه إلى جهة المسجد، فطلب صاحبي التوقّف للنزول، فأبيتُ وقلتُ، يبدو عليك التعب ولا بدّ من توصيلك إلى مدخل مسجدكَ وأصررتُ حتى قبِل. ولمّا وصلنا إلى باب المسجد صافحني شاكراً وأقسم أنه سيضمن خطبة الجمعة بأن قسيساً مسيحياً حملني بسيارته وهو عالمٌ أنني مسلمٌ وأصرَّ أن يُوصلني إلى باب مسجد المسلمين!
وغاب الرجل وبقيت الذكرى تحملُ معها ما تحملُ من معانٍ.

قارئى الكريم، 
التعصّب يهدم جسوراً من التواصل يجب أن نقوّي بنيانها.
التعصّب يرسمُ على وجه صاحبه جبيناً عبوساً، فلا سلام في عينيه، ولا سماحة على وجهه، أما المحبة فتفرد الوجه وتلمس في عينيّ صاحبها الطيب والانفتاح وحسن المعشر.
لا أمل لعالمنا في غياب المحبة والتسامح واحترام حقوق الآخر. 
ولا بد من القول أن للمتعصبين وجوداً ملحوظاً بين جميع الطوائف والديانات. لا شك أن الطيّبين موجودون بين المسلمين والمسيحيين، ومن منّا يودّ إكرام عقيدته فليكرمها بطيب معشره وبحسن تعامله وبانفتاحه ومرونته.