بقلم: مجدى إبراهيم
على إثر عملية جراحية أجريتها، كان من المفترض أن أقضى بعض أيام الراحة بعيدًا عن الزحام والعمل، فمقت بدورب بالذهاب إلى القرية البعيدة الهادئة، حيث المساحات الواسعة الخضراء راحه للعيون والأفئدة، وأجازه للعقل من التفكير. وبالفعل وصلت إلى هناك ناويًا الراحة والبعد التام عن المشاكل والأخبار والقتل والدم ورائحة الدخان المتصاعدة من منازل المحترقين، وصوت الناخبين والمنتخبين. وعند وصولي إلى المنزل العتيق، وجدت بعض الاشخاص يعلقون لافتة أمام المنزل عليها صورة رجل نحيف البدن، بعبارات اعتدت أن أراها دائمًا، وقد كتبوا عليها ((انتخبوا "فلان"))، ونظرة تملؤها الأمل في المستقبل الباهر الآتي ومحاربة البطالة التي نحاربها منذ ولادتنا.
ومن حسن الحظ أن "عمي" هو شيخ بلدتنا الفقيرة، ودائمًا أجلس معه أتناقش قائلاً له: ما الفائدة من هذا وما ضرر تلك؟ وبدوره يجيبني بما قد أملى عليه أو بما قد يريح أفئدة من عيَّنوه شيخًا!! ظنًا منه إني قد اقتنعت بما قال، أو إنه أراح ضميره بإجابته لي!
واليوم، ذهبت إليه وسألته عن سبب اختياره لهذا الشخص بالذات، وما الذى قدَّمه هذا لبلدتنا؟ ووضعت أمام "عمي" مشاكل المدرسة الإعداداية والإبتدائية، حيث لا معلمين. وإن كان بالمدرسة معلمان أو ثلاثة من أصل عشرة معلمين، فهم لا يعرفون شيئًا عن المنهج. وأن الحصص التى يدرسها أبناؤنا هى الألعاب والألعاب والألعاب !! وأن الكتب المدرسية التى من المفترض أن يتسلمها التلاميذ قد وزَّعوها عليهم مشركين كل ثلاثة تلاميذ فى كتاب، مرغمين كل الطلبة على دفع المصاريف مقدمًا!!
فماذا فعل "عمي" العزيز، وماذا فعل السيد الذى نريد أن نعطي أصواتنا إليه؟ ولماذا لم يغيِّر صاحبنا الحاضر بدلا من أن يكتب لنا شعارات حفظناها من سنين هذه عددها عن المستقبل؟؟ فاحضر "عمي" الشاي، وقال بهدوء شديد: ياولدي، هذا الرجل من عظماء القوم. لقد وظَّف اثنان من الشباب فى المجلس المحلي للقرية فى مخبز العيش التابع لنا! ألا يجدر بنا أن نعطيه أصواتنا؟ قلت: هذا رائع، لقد حارب البطالة لأسرتين من بلدتنا.. وماذا عن المدارس وأجيال المستقبل؟ فقال الرجل وقد بدت ملامح الضيق على وجهه: "يا ابنى، بلدنا وحشة.. الست لو ضربت ابنها تعمل مصيبة، والعيال أشقيا. ولو الأستاذ ضرب عيِّل من العيال وعوَّره ولا حاجة، محدش فاهم إن المدرِّس عامل على مصلحته. هما فاهمين إنه مضطهدنا وعاوز يضرب عيالنا وخلاص!!"
دا كلام برضه؟! ما احنا لازم عشان نطالب بحقوقنا نعرف واجباتنا! لم يكن هناك مجالاً للدهشة من ضرب المدرسين للأطفال، فإن قلت له كيف للمدرس أن يضرب تلميذ؟ كان سيحسبني مع الجهلة الخائفين على أولادهم! وإنني لا أود البناء مع الذين يبنون المستقبل!
قلت له: لا عليك.. وماذا عن الكتب المدرسية التي لم يتسلَّمها التلاميذ؟ فرد بأنه استطاع أن يجلب لنا ستة عشر كتابًا أخرى للطلبة! هانت يعني.. فما المانع أن يذاكر الطلبة فى الكراس أو أن يحفظوا ما يُقال لهم بالفصل. "ما أنت كنت كده، وغيرك كان كده، اشمعنى دول يعنى هانجيبلهم الكتب من أول الترم؟ الترم التاني نبقى نجيب الكتب كلها!!".
يبدو أن الكلام لا ينفع، وأن "سعد زغلول" حين قال "مفيش فايدة" كان محقًا، وكان يقصد قريتنا بالذات.. ولكني أتساءل: هل كل قرى الصعيد بداية من "المنيا" وحتى آخر الخط، يعاملونها نفس المعاملة؟ هل قريتنا لأنها إحدى قرى مركز "بني مزار"، وبالتحديد شرق النيل، لا يأتونها بالمدد؛ لأن النيل أصبح الحاجز بين التعليم وراغبي العلم؟!!
إذن فلننتظر كوبري النيل الذى قالوا لنا-منذ أن كنت طالبًا فى نفس المدرسة- إنه قد اقترب ميعاد تسليمه! حتى الآن وهم يقولون اقترب! حتى يعبر العلم آمنا إلى القرى والنجوع التى من المفترض بها أن تُخرج لنا النوابغ والأطباء والمعلمين والمهندسين؛ لأن العلم لا يأتى أبدًا فى مركب النيل.