بقلم: محمود عزت – دبلوماسي مصري
- "كن نفسك.."
هكذا قال الأب ناصحاً ابنه الذي لم يكن قد تجاوز بعد الخامسة عشر من عمره، عندما لاحظ أن ابنه كثير الادعاء وأنه يروي عن نفسه ما لا يطابق الواقع..
فالإبن محب للظهور بصفة مرضية، فهو يود لو أنه قد وُلد لعائلة عريقة ارستقراطية عاشت في الأسكندرية، ويود لو كان قد تلقى تعليمه في مدرسة فيكتوريا الشهيرة وزامل عمر الشريف وأحمد رمزي ويوسف شاهين! وأنه يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة..
كما كان يود أن أباه الموظف البسيط بوزارة المواصلات كان أستاذاً جامعياً.

وكان يود لو أن ذكاءه المحدود قد مكّنه في الدراسة في كلية الحقوق التي كان يدرس بها غالباً أولاد الذوات والأعيان الإقطاعية، ليتخرج فيها وكيلاً للنائب العام أو قاضياً يقضي بين الناس بالعدل..
ويود لو كان بوسعه أن يكون نجماً بازغاً في المجتمع وأن منزله ملتقى الأدباء والمفكرين والفنانين والأطباء والمهندسين بل والوزراء، وأنهم أجمعوا على الإشادة بذكاءه الفذ وقدرته الفائقة على إضحاكهم!
ولكن.. وياللأسف.. فقد نسى الإبن نصيحة أبيه المخلصة الغالية بألا يكذب ولا يدّعي وأن يكون نفسه، وانطلق يحكي ويقول كل ما كان يود أن يكونه.. كما لو كان فعلا!، والأقرب للحقيقة أنه تناسى هذه النصيحة، فليس هناك من يمكنه التأثير عليه ليغير من أفكاره أو يعدل من رواياته التي نسجها خياله المريض أوالخصب لتتلائم مع واقعه، بل أنه نسى أباه نفسه واعتبره قد لقي حتفه في حادث طريق وراح يذكر قصة الحادث متأثراً بجراجه!
وطفق الإبن يفتش في دفاتر العائلة لعله يجد مخرجاً له من مأزق أبيه الذي نصحه مراراً ألا يدّعي، أو لعله يجد في أحد فروعها وزيراً أو قاضياً أو إقطاعياً.. فلم يجد ضالته.
ومع ذلك ليس هناك أدنى مشكلة، فالحق أن هذا الإبن كان يتمتع بذكاء إجتماعي طاغي، وإن كان ذكاؤه العلمي دون المستوى، فلقد تمكن بما له من قدرة بالغة على الإضحاك أن يغير من حياته إلى ما يودها أن تكون، فتولى وظيفة خطيرة وحساسة ولها من البريق ما يعمي العيون عن كل عيب ويصم الآذان عما قد يخفيه أن يُسمع عن سابق تاريخه!

وهداه خياله -أو بالأحرى ما يُطلق عليه بالتفكير فيما هو مرغوب كما لو كان حقيقة واقعة- أن يكون جده وزيراً.. ولم لا؟؟!
فمن ذا الذي يمكنه أن يميط هذا الزيف أو التزييف التاريخي؟!
فقد قطع كل صلة له بأعز أصدقائه السابقين، بل وحتى بأقاربه من أية درجة، ومن ثم فلن يكون عليه رقيب، والتالي فليقول ما يشاء أن يدعيه، أما الرقيب الذاتي وهو ضميره فقد شيعه هو الآخر في جنازة وقورة خفية صامتة إلى مثواه الأخير منذ كان شاباً في العشرين من عمره!
واعتلى من المناصب -بفضل إضحاكه لرؤسائه وهي الموهبة التي لا يملك سواها، ويعترف بها له العدو قبل الصديق- ما لم يصل إليه من زملائه ممكن يفوقونه علماً، فإذا به مستبد لا يُطربه سوى لحن أكاذيبه الذي يستمتع به ولا يحب سواه حتى ولو كان صوت رؤوس من يخلص إليه في المشورة، فليس هناك من وقت، وأعانه على ذلك صوت أجش يشبه في قبحه وقوته زئير الأسود، بل الأدق نهيق الحمير، فليس في عالم الأسود من يزأر ضد قبيلته، فالأسد يزأر فقط قبل الإنقضاض على فريسته ليرهبها لتقع أسيرة صوته وخوفها!
وكان يتمتع بقسوة شديدة، فكان يفتك بمعارضيه أو من يريدون إبداء وجهة نظرهم بصورة بشعة فظيعة، ولا يستشعر في هذا الصدد أي قدر من الشفقة أو الرحمة على ضحاياه، بل كان يتلذذ بالإنتقام منهم..

وكان يمعن في إذلال من تسول له نفسه أن يعتز بكرامته فيحاول بما له من سلطات منحها له القانون أن يُذيقهم شر اعتدادهم بذواتهم، فيجعل ممن يصغرونهم سناً ودرجة رؤساء عليهم! واتخاذهم مخلب قط لضربهم!
بل كان يسعد إذا ما جاءته أنباء عن وقوع أحد هؤلاء المحترمين فريسة المرض بسبب أفعاله المريضة، ويشيع عنهم ما ليس بهم، رغبة منهم في التنكيل بهم..

وكان يصدر الشائعات المشينه عن شخصيات معروفة باحترامها ويجمع الناس على حبها وإجلالها، ثم يصدق ما قال ويبني الشائعة فوق الأخرى لينال منها..
فأضحي شخصية كريهة مملة حتى بين أفراد أسرته الصغيرة زوجته وأولاده الذين لا يطيقونه ويبتعدون عنه بل هو أيضاً يبتعد عنهم، فيترك منزله مبكراً ليبقى خارجه حتى المساء بين مرؤوسيه "المجني عليهم"، والذين لا تربطهم به صلة تمكنهم من الفكاك من براثنه كما هو الحال لدي أفراد أسرته! فهولاء المرؤوسون مضطرون بحكم القوة والحياء أن يستمعوا إلى قصص بطولاته وأمجاده -التي لم تقع إلا في خياله المريض- وهم يتظاهرون بالإنبهار المبالغ بحديثه ونكاته البذيئة، وإلا فالويل لهم أو لمن يجرؤ على إعمال فكره فيما يسمع من روايات يقصها الرئيس لمرؤوسيه عدة مرات بصور متباينة ومتناقضة مع بعضها البعض..
فتارة هو بطل الرواية.. وأخرى يصبح "الكومبارس"!
وكم من "الكومبارس" من يسند إليه دور البطولة الكاذبة على مسرح الحياة!!