بقلم: محمود الفرعوني

أي تغيير مهما كان طفيفًا، لابد أن تتوافر له قوة دفع في اتجاه التغيير المطلوب وتتغلب في نفس الوقت على القوى المحافظة على الثبات. تاريخ الأمة المصرية في المائة سنة الأخيرة يحتوي على أربع محطات رئيسية، حدث فيها تغيير محسوس وهي: ثورة عرابي 1882 وثورة 1919 وثورة يوليو 1952 وثورة التصحيح 1971 والوضع الراهن.
في ثورة عرابي 82 وقبلها مجلس شورى القوانين ثم دستور 79؛ كل هذه الأشكال كانت التعبير عن تزايد أحلام كبار ومتوسطي ملاك الأرض في المشاركة في إدارة البلاد بجانب الخديوي. إذن ما حدث في 82 كان تعبيرًا عن مشكلة داخلية طرفاها الطبقة الجديدة بكل تطلعاتها المستقبلية وسلطة الخديوي المستبد؛ كان سلاح الطبقة الجديدة في مواجهة الحاكم هو ما نطلق عليه اليوم الديمقراطية والحكم النيابي، لتقليص مساحة الحكم المطلقة وذلك لصالح النخبة الجديدة والتي تبنت بجانب ذلك الدعوة إلى إلغاء السخرة. إذن كان هناك إشكالية تبحث عن حل؛ والحل هو الدستور والبرلمان؛ ولكن في الخارج يقف الاستعمار في عنفوانه يسعى لاحتلال البلاد؛ ولم تكن قوى الداخل الراغبة في التغيير قوية بحيث تستطيع هزيمة المحتل الخارجي ومن هنا كانت هزيمة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر.
في ثورة 1919 كانت النخبة من كبار ومتوسطي الملاك قد تبلورت أكثر وتمصرت أكثر، وتفتحت شهيتها للمشاركة خاصة بعد سنين من المكاسب المالية، بسبب صعود أسعار القطن المصري في الأسواق العالمية. عادت إذن الإشكالية الداخلية للبحث عن حل؛ والحل أيضًا الاستقلال والدستور؛ لكن الخارج صار مختلفًا واجتاحت العالم دعوى حق تقرير المصير بزعامة أمريكا؛ ورغما عن تخلي أمريكا بعد قليل عن السير في هذا الاتجاه إلا أن النار كانت قد اشتعلت؛ نار الرغبة في تقرير المصير. إذن كانت هناك إشكالية داخلية تلتقي مع رغبات خارجية تقويها وتدعمها على عكس ما حدث في 82؛ لذلك كانت ثورة 19 ثورة للداخل والخارج معًا، وهو الأمر الذي قواها وأعطاها شعبيتها وجعلنا نقول أنها ثورة الأمة المصرية الحقيقية؛ كانت ليبرالية ثورة 19 النتيجة المنطقية لقيادة كبار ومتوسطي ملاك الأرض لها. يهمنا أن نشير هنا إلى أن المشروع الفردي الذي بدأه سعيد باشا كان هو الذي صنع القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها ثورة 19.
في 1952 كان الوضع مختلفا كلية؛ أولاً كانت النخبة قد غزاها جيش تعداده 350 ألف موظف وصارت ريفية الهوى، وبالتأكيد غير ليبرالية تكره الغرب وتعادي حضارته، وترى أنها تمتلك البديل الإسلامي، والشيوعيون كانوا يعومون في نفس الاتجاه خاصة بعد قيام دولة إسرائيل 48؛ الأمر الثاني هو الرغبة الأمريكية في وراثة الإمبراطورية البريطانية العجوز من أجل البترول.
الأمريكان لا يعرفون الطرق السياسية والحل العملي عندهم هو الانقلابات العسكرية؛ وجيش الموظفين الذين استولوا على النخبة لا يعرفون السياسة أيضًا ويكرهون الأحزاب؛ والإخوان ومن معهم يرون الديمقراطية كفرًا، والشيوعيون يكرهون البرجوازية وأحزابها الرجعية.
لذا كان هناك في الداخل إشكالية تبحث عن حل؛ والحل هو الانقلاب العسكري والخارج الأمريكاني يبارك هذا الحل؛ مرة ثانية ثورة 19 وثورة 52 يلتقي الخارج والداخل في حل واحد؛ واستولت البيروقراطية على الحكم بتأييد أمريكاني، لكن وفق أجندة بيروقراطية واضحة.
في 1971 كانت أمريكا قد غادرت المسرح الناصري وحل محلها البيروقراطية السوفيتية، وعندما اعتلى السادات الحكم سعى للتغيير في اتجاه تقليص القطاع العام لصالح القطاع الخاص؛ كانت البيروقراطية قد وصلت إلى حد أنها صارت أخطبوطًا يمتص كل الناتج القومي، وصارت الدولة هي المستثمر الوحيد، وكانت هذه هي الإشكالية التي تبحث عن حل؛ والحل كان تشجيع القطاع الخاص والاستثمارات الخارجية؛ والتقى الحل الداخلي مع رغبة خارجية أمريكية تحديدًا في استعادة النفوذ الذي فقدته خلال حكم عبد الناصر؛ وللمرة الثالثة يلتقي الخارج مع الداخل والقضاء على حواري عبد الناصر في الحكم كان الهدف وهو ما تحقق فعلاً.
الوضع الراهن: ما هي المشكلة التي تبحث عن حل؟ المشكلة أن التنمية الاقتصادية والسياسية من خلال سيطرة الدولة قد وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد القطاع العام سوى مكانًا للفساد والمفسدين، وغير قادر على قيادة الوطن للمستقبل وجيش من الموظفين قوامه 6 ملايين موظف، لا عمل لهم سوى المحافظة على الجمود وحب البقرة؛ التي هي مصر إلى ما لا نهاية أي دون تقدم؛ والحل هو نخبة جديدة من خلال المشروع الفردي في الاقتصاد وتقليص القطاع العام إلى الحد الأدنى وتقليل عدد الموظفين إلى ما لا يزيد عن 10% من عددهم؛ واستثمارات خارجية تسد فجوة التمويل والتكنولوجيا؛ وتعليم حقيقي وزراعة حقيقية رأسمالية من خلال شركات كبيرة تغير وجه الحياة في القرية المصرية، يومها سوف يكون في مصر أحزاب حقيقية تعبر عن تنوع وتعدد أقطاب اقتصادية خارج سيطرة الدولة المركزية، ويحكم كل ذلك دستور علماني تعاقدي لا يسمح بوجود رئيس مستبد.
وماذا عن الخارج؟ ربما لم تكن مصر مطلوبة كما هي مطلوبة الآن؛ لتضع حدًا للتطرف الديني في المنطقة ومن ثم في العالم؛ لتضع السلام بين إسرائيل والمنطقة موضع التنفيذ؛ لتجعل الحريات الفردية والديمقراطية هي طريقة الحياة لعالم مل الصراعات والنزاعات الدينية والعرقية؛ لكل هذه المصالح العالمية وهي مصالح حقيقية تهم كل البشر يمكن أن تلعب مصر القوية والديمقراطية دورا محوريا فيها؛ أعتقد أن العالم كله سوف يقف معنا وبلا تردد. أعتقد أن الغرب الحضاري يحتاج الآن إلى شركاء ومصر تمتلك الموقع وكنا نمتلك التأثير في الماضي القريب ولا يزال هناك دورًا ينتظرنا للقيام به علينا أن تكون مصر رمانة الميزان في الشرق الأوسط وذلك بنشر الثقافة المصرية الأصيلة لنخرج هذه المنطقة من ظلمات الجهل والتطرف إلى نور الحرية والحضارة وبالتالي صياغة عالم جديد تقوم فيه مصر كما كانت منذ مهد الحضارة الإنسانية فجر الضمير الإنساني.
معنى ذلك أن كل إصلاح وهو في الحقيقة نوع من التغيير لابد من فاتورة يجب دفعها؛ لكي يحدث هذا الإصلاح لابد من وجود طرف ما يتحمل هذه التكلفة. لا يوجد طرف يختار طواعية أن يتحمل هذه الفاتورة ولكنها تتم قهرا حسب الأوضاع الاقتصادية؛ وهذه الأوضاع تؤكد الآن أن الخلاص من القطاع العام بات وشيكا والخلاص من جيش الموظفين فهل من الممكن أن يتحمل عمال القطاع العام ومعهم كثير من الموظفين هذه الفاتورة البشعة؟ صحيح أن البيروقراطية المصرية هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه؛ ولكن ألم يكن سوء الإدارة العليا من وراء الجمود ولا ذنب للعمال ولا الموظفين فيما حدث؟ وهل يتحمل المجتمع المصري ملايين العاطلين عن العمل إضافة إلى الجيش الحالي منهم بعد استغناء القطاع العام والحكومة عنهم؟ والحل الذي أراه هو استيعاب كل هذا العدد إذا نجحنا في جذب مزيد من الاستثمارات الخارجية وبالتالي نرجع إلى الحل الخارجي علما بأن الاستثمارات الخارجية هي التي صنعت النمور الأسيوية وهي التي ساعدت الصين؛ غير أن هذا مرهون بوجود مصر مختلفة عما هي عليه اليوم. مصر المجتمع المدني والدستور التعاقدي والتعليم الحقيقي وثقافة العمل؛ مصر المسلمين والأقباط وحب الحياة؛ مصر السلام لكل شعوب المنطقة ونبذ التطرف والعمليات الانتحارية وفوق ذلك كله مصر التي تختار قادتها بإرادتها هي وحدها دون تزوير ولا استبداد ؛ مصر صاحبة أعظم حضارة في تاريخ البشر؛ مصر التي يجب أن تكون في قلوب وعقول المصريين أولا وفوق الجميع.