بقلم وريشة : جون كرياقوس                                                       
العذراء مريم قالت للملاك:" أنا أمة الرب.."
 محبة بأتضاع وطاعة بوداعة مطلقه:ففى قولها أنا أمة الرب (أى عبدة أو جارية) قد يعنى أنه استسلم  والتزام تام- دون جدال- لمشيئة الله وحضوره الغير المفحوص فبذلك هو التزام كُلي لمشيئة الله بل هواستسلام لعطية الله ‏وعمله كما هوليس كلام تواضع بقدر ما هو كلام إيمان ومحبّة، ولهذا فهى لم تسعى لفحصه أو تطلب أن ترى،بل ولم تسعى لحظة بالشك أوحتى تطلب الدليل حول تأكيد ما أراده الرب لها، وذلك كما فعلوا بعض أنبياء من العهد القديم وهناك الكثير من أنبياء العهد القديم فقد طلبوا من الرب علامات فمثلا موسى النبى حين أرسله الله و أعطاه علامات مثل تحويل العصا الى حية أما ‎ جدعون فطلب علامة فى جزة الصوف(قض6) وأيضا طلب حزقيا الملك فى رجوع ظل الشمس 10 درجات (2مل 20: 9)..أما زكريا الكاهن وشكه فكانت عقوبته بالصمت، فى حين العذراء مريم لم تطلب لا من الرب و لا من ملاك الرب أي علامة وبهذا فالعذراء جسدت إيمان إبراهيم الذى "آمن بالرب فحسب له برا"(تك15:6) فلهذا احتضنها روح الله على الفور حتى نبتت كلمة الله في جسدها بسرّ فائق غير مفحوص وبذلك استمرت مريم العذراء فى كل حين تعيش بصمت بالإيمان وطاعة ووداعة واتضاع وتسليم مطلق، وذلك من يوم البشارة ليوم انتقالها لحبيبها وإلهها وملكها وابنها يسوع، كما بطاعتها ـ على حد قول القديس إيربناوس ـ علة خلاص، لها هي نفسها وللجنس البشرى كله" ومعه يقول كثيرون من الآباء الأقدمين: ‏‏"إن العقدة التي نجمت عن معصية حواء قد انحلت بطاعة مريم؛ وماعقدته حواء العذراء بعدم إيمانها، حلته العذراء مريم بإيمانها" وبمقارنتهم ‏مريم بحواء، يدعون مريم "أم الأحياء"، وكثيراً ما يعلنون:"بحواء كان الموت وبمريم كانت الحياة"..بل ولكى تصير أماً للبشرية الجديدة، وذلك ليس جُزافاً، أو كمجرد رمز، بل هي ‏أماً فعلاً وعن جدارة، وذلك لأنها تركت نفسها للرب واستسلمت للدعوة بخضوع المحبين بدون أن تطلب أي برهان أو دليل أو تبدي أي شك سوى ‏سؤال بريء يدل على تعجبها الشديد [ كيف يكون لي هذا ولا أعرف رَجُل ]...‏ حقا فقد تجملت العذراء بفضائل كثيرة(سبق ذكرتها فى مقالات سابقة) وممالاشك فيه بأن الطاعة والخضوع بوداعة وإيمان هم من اهم تلك الفضائل، فتلك الطاعة مع ذلك الخضوع هو أيضا الذي جعلها ‏تتحمل كل ظروف حياتها الصعبة والمؤلمة بتسليم ووداعة                                                                                                                                   
الرب وصفها بأنها الممتلئة نعمة: فالعذراء ترى فى نفسها أنها أمة الرب(العبدة) فى حين  نالت العذراء النعمة من الرب لأنه وجدها مثال فى الأتضاع  الفعلى – وذلك منذ أن وضعت فى الهيكل لخدمة الرب وكعابدة بكل خشوع ووقار،تصلى وتسبح وتقدم السجود للرب وترفع الطلبات الى الله الذى نذرت نفسها له نهارا وليلا- فهى المنسحقه النقية- فرفعها الرب بذلك فوق السمائيين " لأن الرب قريب من منسحقى القلوب، يقاوم الله المستكبرين أما المتواضعين فيعطيهم نعمة".. بل وربما تساءلت العذراء فى نفسها عندما حَيْاها الملاك بقوله «سلام لك يا ممتلئة نعمة»  فاضطربت فى البداية، حول ما عسى أن تكون هذه التحية؟! لأنها ترى في نفسها أنها مجرد الفتاة الصغيرة اليتيمة الفقيرة، التي لم يكاد أن يعرفها أحد، أو حتى يشعر بها أحد أو يمتدحها أحد، إنها لا ترى في نفسها سوى خادمة أو عبدة للرب وفى هيكل الرب، وبكهنوت الرب أى هى مجرد إنسانة لا حول لها ولا قوة،وأن صح التعبير هربت من"أناها"أى فى نكران ذاتى ومع هذا وجدت نعمة في عيني الرب لأن نظرة ربنا لها كانت نظرة كلها تقدير ويتضح ذلك بوضوح فى تحية الملاك لها،كما لاشك كانت علاقتها الخاصة بالله والتسبيح له وتميزها الفريد فلهذا فهى جديرة  بأن يُنعم عليها من جهة تجسد الإبن الكلمة، وذلك قبل أن يخبرها بالإنعام أعلن لها بأنها ممتلئة نعمة، وبرغم ما قاله لها الملاك عن البشرى المفرحة ألا أنها لم تدّع الألوهية ولم تطلب السجود والتكريم لها،بل فى زيارتها لأليصابات أكدت بأن الرب "نظر إلى إتضاع أمته"كما لم تقل بأن الله نظر إلى صلواتها وأصوامها أو سهرها وتضحياتها وخدمتها، ولهذا فقد عرفت الطريق الذي به تنطلق إلى مراحم الله وتغتصب عطاياه كما لا يعنى بفضيلة الإتضاع القصد منه الوضاعه أى أنها مجرد فى نظر الرب مجرد عبدة أو خادمة عند الرب ولكنه فيه أعلى درجات من تواضع القلب – وكلنا نعرف أن الله ينظر الى القلب-..إذ حقا فالله يرى الخضوع الذي في القلب،وهو الشيء الذي لا يراه الناس، بينما الخشوع أمام الله  يبقى ظاهراً ويمكن أن يراه  الناس، على حين المنعم عليها العذراء كانت فى قداسة تامة قلبا وفكرا بل وجسدا وروحا وهى تشارك السمائين فى التسبيح وتمجيد أٍسم الرب على الدوام بغير أنقطاع أى فى جو ملائكى روحانى وكأنها كانت تعيش حياة السماء على الأرض ذلك دون أن تتوقف عن الخدمة والتى كرستها طوال حياتها وكما سأوضح- فلهذا هى كانت ومازالت ممتلئة نعمة وبهاء متشحة بالنور بوجهها المضئ على الجميع فهى دائما وابدا ملكة السمائين والأرضيين.
 
التسليم التام لله..وليكن لى كقولك: وهذا القول أيضا موضع للتأمل والتحليل.. فالوعد ببشارة الملاك لم يسقطها في الكبرياء بل هى كانت  تحمل روح الخدمة في اتضاع وببساطة بقلب صريح في الإيمان ولم تفكر إطلاقا ‏في يوم من الأيام أن تصير أما ولما أراد الله أن تكون أما بحلول الروح القدس عليها (لو 1 : 35) لم تجادل بل أجابت بعبارتها الخالدة "هوذا أنا أمة ‏الرب ليكن لي كقولك" لذلك وهبها الله الأمومة واستبقي لها البتولية أيضا... وبالتسليم صارت أما للرب  ‏بل وأعظم الأمهات قدرا. (إذ قال أحد الآباء بإنّ العذراء يوم البشارة، "حبِلت بالمسيح بالإيمان في قلبها، قبل أن تحبل به في جسمها) وبتسليم وطاعة تامة لمشيئة الله وإرادته [ هوذا أنا أمة  الرب ليكن لي كقولك ]ونطقت بهذا بدون أن تطلب علامة مثلما فعل آخريين فى العهد القديم.فكان عند العذراء الثقة والإيمان وبالتسليم لمشيئة الخالق، فلهذا فاقت العذراء الكثير من القديسين و القديسات فهوذا سارة عندما سمعت بشارة الملائكة بميلاد إسحق ضحكت و قالت" ..أبعد فنائى يكون لى تنعم و سيدى قد شاخ.."(تك12:18).وأيضا من شك بعض تلاميذ المسيح كبطرس وتوما "...يا قليل الإيمان لماذا شككت...."أما العذراء مريم فسألت الملاك :"..كيف يكون هذا..." إلا إنها حينما رد عليها الملاك:"...الروح القدس يحل عليك.." لم تتساءل للمرة الثانية بل آمنت و قالت:".ليكن لى كقولك" وهو الإبمان بلا جدال والتسليم فهي بعده، الأمَ المُثلى والأكثر مسؤوليّةً في البشر أجمعين. وبرغم الاختيار الذي وقع عليها لكنّها تأبى إلاّ  أن تصف نفسها بأنها "أمَةَ الرب" المتواضعة والخاضعة، وأشبه ما فعلتْ، في ما مضى مع أبيجائيل التي طلبها داود النبي للزواج، إذ قامتْ وسجدتْ على وجهها وقالت: ((هآءنذا أمتُك، خادمةٌ لك. لتغسِلَ أرجلَ خُدّام سيّدي)) (1صموئيل 25\41)(والفارق مع القياس فى المقارنه).. والعذراء أيضا ليست فقط خادمة للرب بل هى كانت معينة ومحبة من اليصابات..بل وحتى الى كل البشرية، وكما فعل يوماً ابنها يسوع القائل: ((أتيتُ لأخدُم)) برغم أنه هو الأول والأمثل،(لا ليُخدَم بل ليخدُم).. فالعذراء فى تسليمها لله، مع حياة الشكرعلى كل شيء وفى كل حين وبقولها للملاك«ليكن لي كقولك» أي ليكن لي كما يريد الله - ما يريده الله في حياتي يفعل – وهوأيضا ما علمنا رب المجد في الصلاة الربانية «لتكن مشيئتك يارب كما في السماء كذلك على الأرض..» وكما قال رب المجد يسوع في بستان جثسيماني «لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك». إن هذه المبادئ هي لا شك من أساسيات للذين يعيشون حياة روحية سليمة كأمنا العذراء مريم والتي في كلماتها القليلة علمت البشرية دروس كثيرة.   
 
العذراء"أمة الرب"..المؤمنة الأمينة فى الخدمة والعطاء: القلم قد يعجز عن التعبير والتأمل فى وصف مدى سمو رسالة العذراء وهى تؤكد للملاك فى أجابتها المختصرة جدا"هوذا أنا أمة اللرب..ليكن لى كقولك." أو كوعدك وعلى كلمتك ..فحقا كما يذكرنا الكتاب"من أراد أن يكون أولا فليكن لكم عبدا" وها هى المتضعة "أمة الرب" أختارها الله ليتجسد منها المخلص ولكى يعين شعب الله ويبذل نفسه عن البشرية ومؤكدا على قوله"أن أبن الأنسان لم يأتى ليخدم بل ليخدم وليبذل  نفسه فدية عن كثيرين"(مت 20:28)..فكانت أيضا العذراء تجتهد لتكرم الرب وتخدم شعب الرب منذ أن كانت فى الهيكل- من سن 3 حتى 12سنة- تخدم بقلب لا يهدأ ولا يستريح بل ولا تتوقف فيما وصفت به عن المساعدة فى العطاء وعمل الخير وبتضحية وإنكار الذات،ومؤكدة بذلك قول أبنها الحبيب"..وحيث أكون أنا هناك يكون خادمى وأن كان أحد يخدمنى يكرمه الآب"كما إن الوعد الآلهى لم يسقطها في الكبرياء فكانت  تحمل روح الخدمة في اتضاع بل أن خادمة الرب لم تبالى بالصعاب والأخطار وأى أهوال، ...وقد توصف بخدمتها الفعالة فهى خدمة مرتكزة على الجذور والتأصل في العمق والهدوء والبذل وليست الخدمة ذات الرنين العالى والشهرة الواسعة أوالدعاية الجوفاء بل بمشاعر حساسة ومرهفة للآخريين (وحيث مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ) وبصمت المُحبين الذين يحفظون سرّ الحبيب... فهى قدّمت كلّ الذي عندها وبهذه التقدمة أفاضت الكثير من النعم على الإنسانية، يكفّي أنها أفاضت يسوع المسيح، وبالتالي بواسطة يسوع المسيح لكى ينفتح الباب لكلّ الإنسانية ولكي تشارك بذلك في حياة الثالوث،ولهو شيء عظيم ولا مثيل له من التى قالت: هوذا أنا أمة الرب ..وبرغم أن الأمر يتطلب مزيد من البحث والتأمل ألا أكتفى حاليا بهذا القدر لكى أقدم بأيجاز نماذج مختصرة حول أين وكيف كانت العذراء على الدوام خادمة الرب الأمينة..  
العذراء كانت ومازالت تخدم وتعمل دون إنقطاع :  ولضيق المساحة سأختصر لتوضيح النقاط التالية حول كبف وأين خدمت أمنا العذراء :       
*الأم البتول خادمة لقضية الخلاص:لأجل كل البشر وذلك بأختيارهام من الرب يسوع لتصير أما وهوما أراده الله بأن تكون أما بحلول الروح القدس عليها لترتفع فوق الجميع–ونظرا للصفات والتى سبق ذكرها-.."وحيث بنات كثيرات عملن فضلا أما أنتى ففقت عليهن جميع."                              *الأم البتول خادمة للهيكل من سن 3 الى 12 عام: عاشت خادمة بين جدران الهيكل عابدة بخشوع ووقار،مضحية ناكرة للذات بطاعة وقداسة قلبا وفكرا
*الأم البتول خادمة فى بيت يوسف النجار: عاشت بمثالية تدبرالمعيشة لتخدم يوسف البار ومؤدية بتصرفات ملائكية ومع أجتهاد فى خدمات لستر المذبح
*الأم البتول خادمة فى بيت زكريا واليصابات لمدة ثلاثة شهور:وأشير هنا أن ذلك هو قمة من التضحية بخدمتها هذه،أضف المعاناة بسفرها الشاق لتخدم  حيث قالت لها إاليصايات:"فمن أين لى هذا أن تأتى أم ربى الى" وفيه أيضا سبحت العذراء تسبحتها الوحيدة وهى تنطق بها بالروح القدس ..             *الأم البتول خادمة للطفل يسوع وليوسف الذى تقدمت به الأيام: فهى المطيعة بإيمانها وبتسليم كامل للرب لتضع طفلها فى مذود مع رعايتها للطفل وليوسف الذى تقدمت به الأيام مما كان بالضرورة يتطلب من العذراء مزيد من الجهد والبذل فى العناية بأسرتها                                              *الأم البتول خادمة فى رحلة الهروب لأرض مصر:وهو الخضوع لأمرالرب بالهرب لحماية الطفل يسوع، فتحملت الغربة مع عنايتها لخدمة وحماية أسرتها،كما حدثت معجزات عدة بواسطة الطفل وهو ما أكدته البعثة الفرنسية عام 1887 بعثورهم على"مخطوطات الأشمونين"لتؤكد تلك المعجزات..    
 
*الأم البتول خادمة فى عرس قانا الجليل:وخدمتها هنا تؤكد على مشاعرها الصادقة المرهفة ومعونتها للغير-ذلك بدون أن يطلبوا منها- بل فيها قالت لأبنها الحبيب والواثقة فى قدرته:"أنه ليس لهم خمر".فهذا الحدث ما يؤكد إستجابة الرب لشفاعتها.وهى كالمخلص:"فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين".. *الأم البتول خادمة صامته فى حياة سنوات الرب يسوع:لم توضح الكتب مدى وكيف كانت خدمتها للرب ألاأنها كانت تتابعه دون توقف بدليل أنها وقفت تحت صليبه باكية وقائلتا:"العالم يفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائى فتلتهب عند نظرى الى صلبوتك الذى أنت صابرعليه من أجل الكل ياأبنى وآلهى"    
*الأم البتول خادمة مع الرسل كقدوة مع الصلاة لأجل أنتشارالكرازة:لم تتوقف العذراء بعد القيامة من الخدمة مع الرسل فكانت خادمة الصلاة من أجل نجاح طريق الكرازة وظلت تخدمهم حتى حلول الروح القدس على التلاميذ"فكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع." 
 
*الأم البتول هى خادمة للشفاعة التوسلية وعلى مدى العصور:بل وظلت بعد نياحتها تخدم البشرية والذين يتوسلون بإيمان لكى تشفع لهم عند المخلص، لأنه قادر أن يستجيب لشفاعة أمه(وعرس قانا الجليل أعظم دليل على ذلك وفيه أظهر مجده فآمن به تلاميذه)                                              
 
*الأم البتول ظلت تخدم وما زالت فى تجليات وظهورات فى مصر والعالم كله: أنها الشفيعة الأمينة والحنونة على البشرية بل ولم تتوقف أبدا عن  المعجزات والتجلى بوضوح لخدمة كل من يطلبها بإيمان بتضرع وبثقة فى شفاعتها العظيمة..فهى حقا أمُاً للمؤمنين..      
                                  
   وتأمل معى تلك الأقوال:
*السلام لك يا مريم الحمامة التى ولدت لنا الله الكلمة..
*من أحكم الأُتضاع فقد أحكم كل الفضائل.. (القدبس مكسيموس)
*بعد أن حملت العذراء ابنها وولدته لنا..أنحلت اللعنة..جاء الموت خلال حواء والحياة خلال مريم (القديس جيروم)
*أفرحى أيتها الممتلئة نعمة!يتنعم البشركل بنصيب من النعمة،أما مريم فنالت النعمة بكل فيضها(الأب بطرس خريسولوجيس)
*أنفردت بدعوتها"الممتلئة نعمة"إذ وحدها نالت النعمة التى لم يقتنيها أحد آخر غيرها إذ أمتلأت بواهب النعمة.(القديس أمبروسيوس)
*كانت بتولا لا بالجسد فحسب بل بالروح أيضا فأن نقاوة ذهنها لم يمسها أى خداع.(القديس أمبروسيوس)
*أن قيثارة الروح القدس هذه لن تبعث لحنا أعذب مما تصدره حين تتغنى بمديح مريم..( مار افرآم السريانى)