بقلم محمود يوسف بكير
اعتمد النمو الاقتصادي العالمي بشكل أساسي في خلال العشرين سنة الماضية تقريباَ على الطلب الاستهلاكي في الاقتصاديات الغربية المتقدمة خاصة الولايات المتحدة ، أما جانب العرض فقد أتى بالأساس من النمور الأسيوية خاصة الصين والهند وكوريا الجنوبية وتايوان ....الخ حيث اعتمدت هذه الدول سياسة تنموية تقوم على تشجيع الاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا الغربية والتصنيع من أجل التصدير وفي نفس الوقت الحد من الواردات الأجنبية بما يحقق فائض كبير في موازينها التجارية مع الدول الغربية، وحتى تنجح هذه السياسة كان من اللازم أن تحتفظ هذه الدول بأسعار منخفضة نسبياَ لعملاتها مقابل العملات الغربية علما بأن لسياسة الاحتفاظ بسعر منخفض للعملة المحلية مزايا وعيوب ولعل من أبرز مزاياها ما يلي :
• تشكل العملة الرخيصة نوعاَ من الدعم غير المباشر لصادرات أي دولة حيث تصبح صادراتها أرخص نسبياَ وأكثر منافسة وفي نفس الوقت تصبح كل الواردات الآتية من الخارج مرتفعة الثمن بشكل نسبي مما يحد من قدرة المستهلكين في دولة العملة الرخيصة على شراء السلع المستوردة.
• وللسياسة السابقة فائدة أخرى هامة للغاية وهي دعم ما نسميه بالإنجليزية import-substituting industries أي دعم الصناعات المحلية البديلة للواردات نتيجة لارتفاع أسعار الواردات كما أسلفنا، و هو ما يؤدي إلى تحقيق معدلات تشغيل عالية والحد من البطالة بشكل فاعل .
• تؤدي سياسة العملة الضعيفة أيضاَ إلى تشجيع السياحة الواردة من الخارج وكل الصناعات والخدمات المرتبطة بها ، كما أنها تشجع السياحة الداخلية من ناحية أخرى بسبب ارتفاع قيمة العملات الأجنبية للمواطنين وتكلفة السفر إلى الخارج .
أما أهم مضار سياسة العملة الضعيفة فهي ما يلي :
• ارتفاع أسعار السلع الرأسمالية المستوردة من الخارج مثل الآلات والمعدات والخدمات الأساسية غير المتوفرة في الداخل وهذا يمثل ضغطاَ على الكثير من الصناعات المحلية خاصة التي في طور النمو .
• ارتفاع أسعار الأدوية المستوردة من الخارج والتي لا يمكن تصنيعها محلياَ .
• ارتفاع أسعار الوقود وكافة المنتجات البترولية المستوردة حيث يتم تسعيرها بالدولار بشكل أساسي .
• ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والأرز والسكر . . . الخ إذا ما كانت دولة العملة الضعيفة لا تنتج ما يكفيها من هذه السلع .
•
بالإضافة إلى ما سبق فإن الدول التي تتبع سياسة العملة الضعيفة تحتاج إلى إدارة سياستها النقدية بحذر شديد لتفادي حدوث حالة من التضخم نتيجة الإبقاء على أسعار منخفضة لمعدلات الفوائد المحلية وسوف نوضح معنى هذا الكلام حالاَ .
ويمكن القول أن مزايا الاحتفاظ بسعر منخفض للعملة المحلية تجاه العملات الرئيسية مثل الدولار واليورو تجب العيوب التي أوضحناها سابقاَ ولهذا نجد أن الصين تقاوم بشدة الضغوط الأمريكية والأوربية عليها للسماح لعملتها المحلية بالارتفاع أمام الدولار واليورو .
ولو أخذنا الصين على سبيل التفصيل فإننا نلاحظ أن العلاقة بينها وبين أمريكا ( باعتبار أنهما أكبر اقتصادين في العالم بعد المجموعة الأوربية ) قامت على أساس غض بصر الإدارة الأمريكية عن الفائض التجاري الكبير والمتنامي في الميزان التجاري لصالح الصين بسبب ربط الصين لعملتها بالدولار الأمريكي بما لا يسمح لها بالصعود الحر مقابل الدولار حسبما تمليه النظرية الاقتصادية وذلك مقابل قيام الصين باستثمار أغلبية هذه الفوائض في شراء أذون الخزانة الأمريكية التي تصدرها الحكومة الأمريكية لتغطية العجز الكبير في الميزانية الفيدرالية.
ونفس ما حدث في أمريكا حدث في باقي الاقتصاديات الأوربية مثل ايرلندا واسبانيا وانجلترا واليونان. . الخ حيث عاشت كل هذه الدول في نعيم اقتصادي يتجاوز إمكانياتها.
ولكن هذا الوضع ظل على ما يبدو مناسباَ للجميع بالرغم من خطورته على الأمد الطويل ، فعلى الأمد القصير فإن الحكومات الغربية سمحت للعجز بالتزايد ومن ثم المزيد من الاقتراض من دول الفائض حتى يظل المستهلكون الغربيون سعداء ويعيدوا انتخاب المسئولين عن هذه السياسات .
ولكن مع تزايد مديونيات الدول الغربية بشكل مخيف بما يتجاوز 100% من ناتجها القومي الإجمالي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي لديها وانخفاض معدلات الادخار والاستثمار بسبب زيادة معدلات الاستهلاك الخاص وزيادة معدلات البطالة أدت كل هذه العوامل إلى زيادة احتمالات عدم قدرة الكثير من الدول الأوربية على الوفاء بالتزاماتها الدولية وانخفاض جدارتها الإتمانية وتدهور التقييم الممنوح للسندات الدولية التي تصدرها عادة الحكومة لتغطية العجز السنوي في موازناتها وهو ما يؤدي في النهاية إلى زيادة عبء خدمة الدين العام بسبب مطالب الدائنين بزيادة عائد السندات الحكومية للتخفيف من مخاطرها .
والخلاصة أن الأوضاع الاقتصادية باتت صعبة للغاية في دول المجموعة الأوربية وكذلك الولايات المتحدة وهو ما أجبر جميع هذه الدول على إتباع سياسات وبرامج تقشفية تمثلت في إجراء تخفيضات حادة في موازنات الدفاع والخدمات العامة وعلى رأسها الصحة والتعليم من أجل وقف زيادة عبء الدين العام ، كما قامت بعض دول المجموعة الأوربية وعلى رأسها ألمانيا وكذلك صندوق النقد الدولي بتقديم قروض ضخمة للدول الأوربية سالفة الذكر لإنقاذها من شبح الإفلاس .
ما يحدث الآن
لا أود أن أرهق القارئ العادي بالمزيد من التفاصيل الفنية ولكن ما يحدث الآن على مستوى الدول الكبرى يدعو إلى القلق وإن ثمة حالة من عدم الاستقرار النقدي والمالي على مستوى العالم تلوح في الأفق حيث نلاحظ أن الولايات المتحدة بدأت تحذو حذو الصين بعد أن فشلت كل ضغوطها في إقناع الأخيرة بالسماح لعملتها بالارتفاع بما يحقق نوعاَ من التوازن الاقتصادي يقلل من عجز الميزان التجاري الأمريكي ، فمنذ أسابيع قليلة أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي انه بصدد ضخ 600 بليون دولار جديدة داخل النظام المصرفي الأمريكي من خلال شراء أذون الخزانة التي تصدرها الحكومة الأمريكية وهذا ما نسميه في علم
الاقتصاد بسياسة الإصدار الجديد ، بمعنى أن البنك المركزي يستخدم مطابعه في ضخ هذه الأموال دون وجود أصول حقيقية تغطيها وفي أمريكا يسمون هذه السياسة Quantitative Easing" " أو التسهيل الكمي و بالطبع فإن عملية الإصدار الجديد سوف تحقق الغرض المنوط بها من قبل الحكومة الأمريكية وهو تخفيض قيمة الدولار الأميركي مقابل العملات الأخرى بشكل عام وقد تعرضت الحكومة الأمريكية لهجوم لاذع من الدول الأخرى بسبب هذه السياسة لأن الدولار هو عملة الاحتياطي الدولي الأساسية في العالم و من ثم فإن أثار هذه السياسة سوف تكون وخيمة على اقتصاديات الكثير من الدول الأخذة في النمو والتي تعتمد على الصادرات في نموها الاقتصادي ، بل إن هذا التوسع النقدي الأمريكي الكبير قد يؤدي إلى حدوث فقاعات أو تضخم غير طبيعي في قيمة بعض الأصول المالية كما حدث منذ عدة سنوات في قطاع المساكن في الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوربية الأخرى ، وربما تحدث الفقاعة هذه المرة في الذهب نفسه أوفي قطاع أسهم بعض الشركات .
هذا وسوف تؤدي السياسية الأمريكية الجديدة - في حال نجاحها في تخفيض قيمة الدولار- إلى زيادة الصادرات الأمريكية إلى الدول الأخرى وفي نفس الوقت فإنها ستؤدي إلى انخفاض واردات الدول الأخرى إلى أمريكا وعلى رأسها الصين ، وإن كان للمسئولين عن السياسة النقدية في الولايات المتحدة رأي آخر إذ يقولون أن هدف هذه السياسة هو إحداث حالة من الانتعاش في الأسواق الأمريكية وهذه أكبر هدية يمكن أن تقدمها أمريكا للعالم كله لأن الانتعاش في الأسواق الأمريكية يعني قدرتها على استيعاب واردات أكثر من العالم كله باعتبار أن أمريكا تمثل أكبر أسواق العالم ولكن الحقيقة هي أن هذا القول ليس من أهداف السياسة الاقتصادية الأمريكية في الأمد القصير ، إذ أن الهدف الأساسي الآن هو تشجيع الصادرات الأمريكية ومعالجة مشكلة البطالة التي وصلت إلى 10% وتقليل عجز الموازنة الأمريكية حتى ولو أدت هذه السياسة إلى حدوث نوع من النمو التضخمي كما يحدث في الدول النامية إذ أن محاربة التضخم لم يعد أولوية في كل الاقتصاديات الغربية كما كان الحال طوال الثلاثين عاماَ الماضية .
الثابت الآن أنه في وقت الأزمات الكبرى لا تلتزم كافة الدول بأي قواعد وتتبع سياسة أنا ومن بعدي الطوفان ، ولا ينبغي أن ننخدع بالاجتماعات التنسيقية أو التشاورية التي تقوم بها الكتل والتجمعات الاقتصادية الكبرى في العالم هذه الأيام والمراقبون أو المتابعون لهذه الاجتماعات يدركون أن الدول أصبحت تستخدمها لتبرير سياستها ليس إلا وقد بدى هذا واضحاَ في موقف الولايات المتحدة في قمة ال G 20 منذ عدة أسابيع .
والخلاصة أن كل دول العالم مقبلة على مرحلة من الانكفاء على الذات وأن التعاون والتنسيق الدولي فيما يتعلق بأولويات تحقيق نمو اقتصادي عالمي مستدام ومتوازن لا تتسم بالجدية وتأخذ الطابع المظهري ومن ثم فإن العالم يتجه إلى مرحلة من عدم الاستقرار الاقتصادي إلى حين حتى تتفق الدول الكبرى على إطار تعاون دولي يلتزم فيه الجميع بتقديم تنازلات اقتصادية حقيقية حتى لا يغرق المركب و يستمر في السير إلى الأمام .
النصيحة
ونصيحتنا إلى المستثمر أو المدخر العادي في هذه المرحلة الحرجة أن ينوع مدخراته بين ثلاثة عملات على الأقل ، عملته المحلية بالإضافة إلى عملتين أخريين ، وقد يستغرب البعض من دعوتنا إلى الادخار بالعملة المحلية أيضاَ حيث اعتدنا على عدم الثقة في عملتنا المحلية ولكن الحاصل الآن هو عكس ما كان يحدث في السنوات الثلاثين الأخيرة حيث جرت العادة على أن يفضل المستثمرون أو المدخرون في كل العالم شراء أصول في الدول الغربية في أوقات الأزمات أو عدم التيقن ولكن ما يحدث الآن خاصةَ بعد تعرض عدد كبير من الدول الأوربية إلى مخاطر حقيقية بعدم قدرتها على سداد التزامات سيادية، بالإضافة إلى لجوء كل دول المجموعة الأوربية إلى تخفيض نفقاتها واحتمال تعرضها لنوبات قاسية من الكساد فإن هناك زيادة كبيرة من التدفقات النقدية الدولية نحو الدول النامية التي تتميز حالياَ بالاستقرار الاقتصادي ومن ثم فإن عملاتها وأصولها أصبحت مركز جذب لهذه التدفقات والاستثمارات .