بقلم: محمود يوسف بكير

لابد أن نعترف أن اللغة العربية تمر بأزمة خطيرة؛ إذ لم تعد لغة علم، وإنما لغة أدب وشعر وخطابة فقط. والدليل على هذا، أنه لا توجد أي مراجع عربية محترمة لكل العلوم الحديثة مثل علوم الكومبيوتر والهندسة الوراثية والعلوم النووية وعلوم الموجات والفضاء..الخ. ولا توجد أيضًا مراجع يُعتد بها حتى في العلوم التقليدية، مثل الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد والكيمياء والفيزياء..الخ. هناك فقط بعض المراجع المترجَمة في العلوم النظرية، مثل الاقتصاد السياسي والمالية والفلسفة والمنطق، وكلها مراجع قديمة. أما الترجمات الحديثة، فإنها تركِّز على الأبحاث السياسية والاقتصادية، والقصص، وبعض الأبحاث العلمية السهلة. ولكن لابد أن نعترف أيضًا أن العربية لغة غنية جدًا عندما يتعلق الأمر بالتملق والنفاق والمدح والهجاء.
 
وأنا أتابع من فترة لأخرى عينات من أطروحات الدكتوراة التي تُعد باللغة العربية في جامعة "القاهرة" في مجالات الاقتصاد والعلوم السياسية بحكم التخصص. وللأسف الشديد، فإنها تتميز بالضحالة، والسطحية، والنقل غير الأمين، وسوء الإعداد، والفبركة. خاصة فيما يتعلق بما يُسمَّى بالاقتصاد الإسلامي وهذا حديث آخر. ومن ثم، فإن أطروحات الدكتوراة باللغة العربية لم تعُد سوى مجرد نقل رفات ميت من مقبرة قديمة إلى أخرى جديدة. وهذه الأطروحات العربية ملقاة بالمئات في مخازن الجامعات والمستفيد الوحيد منها هم الفئران. والمحصلة المُحزنة، إنه لا توجد أي أبحاث علمية نافعة باللغة العربية أو للباحثين الذين يجيدون العربية فقط.
 
وإذا أمعنا النظر في حال العملية البحثية في كل الدول العربية، سوف نجد أن جل الباحثين المحترفين والجادين وذوي الإسهامات النافعة والمبدعة، يجيدون أحد اللغات الأجنبية الأوربية، أو إنهم درسوا في "أمريكا" أو "أوربا".
 
ولعل القارئ يلاحظ أنني أركِّز على الباحثين دون غيرهم، ويرجع هذا إلى أنهم أساس التقدُّم. فتقدُّم الدول- وحتى الشركات- يعتمد على إبداع الباحثين بالأساس. ولو نظرنا إلى الجامعات على سبيل المثال، نجد أن الأستاذ المحاضر لا يضيف جديدًا عادة، إلا إذا كان أستاذًا باحثًا. وعلى مستوى الأفراد، فإن الطبيب العادي عندما يعالج مريضه لا يزيد دوره عن مجرد وصف أحد الأدوية التي يحفظها عن ظهر قلب. أما المعالج الحقيقي، فهو مخترع الدواء الذي يمضي سنوات عمره في المعامل والتجارب والأبحاث.
 
وكل من أتيحت له فرصة العمل أو الدراسة في أوربا أو "أمريكا"، يعرف أن الجامعات هناك إنما هي جامعات بحثية بالأساس، وليست تلقينية مثلما هو الحال في عالمنا العربي.
 
ولأنه لا توجد أي أبحاث جادة باللغة العربية كما أسلفنا؛ فإن لغتنا لم تعد لغة حية أو مطلوبة. والدليل على هذا، أن كل الدول العربية تتوسَّع في إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية التي يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية بالأساس. وعلى سبيل المثال، نجد بـ"القاهرة" وحدها الجامعة الأمريكية والكندية والإنجليزية والألمانية.. الخ، والمدارس الخاصة التي تدرِّس بالإنجليزية في حالة تزايد مستمر نتيجة للطلب الكبير عليها، رغم ارتفاع الرسوم الدراسية بها. وذلك لأن أرباب الأسر القادرة أدركوا أنه لا مستقبل واعد لأبنائهم إذا ما أُرسلوا للمدارس أو الجامعات الحكومية التي تدرِّس باللغة العربية. وحتى غير القادرين مستعدون للتضحية بأي شيء من أجل إرسال أولادهم إلى أحد المدارس الأجنبية؛ وذلك لانهيار منظومة التعليم في المدارس الحكومية من ناحية، ولعدم جدوى الدراسة بهذه اللغة في المجالات العلمية المتقدمة من ناحية أخرى. والأهم من هذا كله، أن أول شرط للحصول على وظيفة محترمة في "مصر" أصبح ضرورة إجادة اللغة الإنجليزية.
 
وكلما زرت "القاهرة"، أجد أصدقائي يفاخرون بأن أولادهم أو أحفادهم يدرسون باللغة الإنجليزية، بغض النظر عما يدرسون. وهناك قناعة تامة لدى الجميع بأن المدارس والجامعات الأجنبية هي بوابات المستقبل الباهر للأبناء، وأن نظيراتها العربية هي أقصر الطرق لضمان مستقبل مظلم لهم.
 
وقد لاحظت أن المدارس الحكومية لازالت تدرِّس اللغة العربية كما كنا ندرسها منذ أكثر من أربعين عامًا، وكنا وقتها نسخر من المعلقات الشعرية ذات اللغة الغليظة غير المفهومة، وكنا نتبارى في تحويرها من باب المرح من عينة:
بمنجار يكلكل في البردع الخافقات        يهنجر في الكئيم كركود الكلات
كأن القوك وهنان الشرى                يهفتع باللأور مرنون الفتات
هل فهمتم شيئًا؟.. ولا أنا!!
 
وأتذكر بيتًا كان يقول:
إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا        تخرُّ له الجبابر ساجدينا
يعني الولد لا زال في اللفة والجبابرة تسجد له! فما بالك عندما يشد حيله، ويبدأ بالمشي؟! وكنا نتساءل دائمًا: ما هو الهدف من تدريس أشعار تعج بهذه المبالغات غير المنطقية أو غير المفهومة؟! 
 
ومن علامات احتضار اللغة وانسحابها من الشارع المصري، أن معظم أسماء المحلات فيما يسمَّى بالأحياء الراقية في "القاهرة" أصبحت مكتوبة بالإنجليزية أو تحمل أسماءً إنجليزية. كما أن مراكز تعليم الإنجليزية تتزايد بشكل ملحوظ، علمًا بأن هناك ما يسمَّى بمجمع اللغة العربية في قلب "القاهرة" وهو هيئة علمية ضخمة منوط بها مسئولية تطوير اللغة العربية وجعلها لغة عصرية. وهذا المجمع موجود منذ أيام د. "طه حسين"، ويبدو أنه أيضًا يحتضر؛ حيث يُقال أنه يضم علماء في اللغة العربية انتهى عمرهم الافتراضي منذ زمن بعيد، وكل ما أنجزوه إنهم خرجوا علينا بألفاظ من عينة التلفاز والمذياع والحاسوب، بينما كل الشارع العربي- بلا استثناء- يقول: التليفزيون والراديو الكمبيوتر.
 
والخلاصة، إن اللغة العربية تحتضر بالفعل. ومن أجل إنقاذها ينبغي كخطوة أولى إغلاق مجمع اللغة العربية، وتسريح أعضائه، وإنشاء مجلس جديد لتطوير اللغة العربية وتسهيل قواعدها، وعمل موائمة بين لغة الناس في الشارع ولغة الكتاب، كبداية لجعل العربية لغة عملية وعلمية، وليست لغة شعر وخطب عصماء فقط. فهذا هو الطريق الوحيد لرفع مكانة اللغة.
يبدو إنني أحلم..