كتب : محمد حسين يونس
الذى لم يستطع أن يخرج ببلده من البحيرة الاسنة .
ما أتعس حياتي علي أرضك يا مصر .
جاءت ولادتي في مخبأ أثناء غارة جوية (المانية) علي مدينة القاهرة ، فكانت اصوات القنابل وطقطقات المضادات الارضية اول ما سمعت من أصوات وكانت انعكاسات أضواء الكشافات العملاقة التي تجوب السماء المعتمة بحثا عن طير الابابيل هي اول ما شاهدت وبين صرخات الذعر وهمسات الخوف علي الام والطفل كانت صيحتي الاولي .. ومنذ تلك اللحظه لم أتوقف عن الصياح.
لقد كنت هذا الطفل الذى ينكمش في حضن والدته مع سماع صفارات الانذار بغارات اسرائيلية مزعومه عام 48 وصيحات الشباب تدوى حوله (( اليهود كلاب العرب )) وكنت هذا الصبي الذى سار في المظاهرات يهتف ضد الملك وعائلته ويجرى هربا من عصى جنود بلوكات النظام والهجانه .. ثم هذا الشاب الذى ترك دراسته الجامعية ووقف يحض المواطنين علي اطفاء الانوار اثناء غارات 1956 مؤمنا بأن ثورته قد أعادت له ولأهله العزة والكرامة ، و كان مستعدا لان يموت فداءً لها مدافعا عن وطنه أمام عدوان مثلث الاضلاع .
ثم كنت الضابط المهندس الذى يشيد سدا ترابيا في حرض باليمن وهو يعرف أن مخابرات العدو السعودى قد رصدت علي رأسه عشرة الاف ريال .. وهو نفسه الضابط الذى انتهت به حرب 67 الي معسكرات اعتقال الاسرى بعتليت .
ما أتعس حياتى على أرضك يا مصر
طفولة شقية وصبا وشباب فى وطن تدمر إنجازاته موجات العدوان المتتالية وتستهلك طاقة أفراده فى معالجة آثارها ، لتضيع أحلامنا وآمالنا بانهاكنا فى معارك فرعية وليترسب فى داخلنا كرها ومقتا لكل ما هو قادم من خارج الحدود.
الاستسلام الساداتى لنفوذ المنتصرين صاحبه ظاهرتين الأولى كانت ردة على ما تصوره سلفه مناسبا للوطن من أنظمة اقتصادية وسياسية ، والأخرى هى السماح للاسلام السياسى بالتوغل بين المصريين ..
الأخوان المسلمين والتنظيمات المنبثقة عنهم كانوا على الدوام الأبرز فى خيانة الحلم المصرى منذ زمن ابراهيم باشا عبد الهادى الذى حظر نشاطهم بعد إغتيال النقراشى باشا رئيس الوزراء وحتى نهاية حكم عبد الناصر، لقد كنا نراهم مجموعة من الارهابيين الخونة الأجلاف الذين يبيعون انفسهم لمن يدفع أعلى سعر ( أو هكذا لقنتنا المدرسة والاعلام ) الاخوان إغتالوا ، فجروا ، حرقوا ، دمروا ، وكونوا ميليشيات عدوانية أشاعت بين المصريين الرعب بالارهاب ، ولم تردعهم سجون السعديين ولا معتقلات الناصريين بعد ان حماهم وهابيو السعودية وفاضوا عليهم من إحساناتهم كرما ، أشاعوا بسببه الدعوة لنظام بدائى مماثل لحكم بنى سعود الفاسد
وكما لو كنا قد تم احتلالنا بواسطة قوات العدو الاسلامية تفرض علينا قوانينها وسخافاتها ، يبايع أهل سيناء السلفيون ويقف شباب الاخوان بالعصى الكهربائية فى مواجهة مع شباب يناير أمام مجلس الشعب يوسعونهم ضربا ( يالخيبتك يا مصر بأبناءك ) كيف تقبلت ما يحدث للاقباط في الصعيد و السيدات في الشوارع و الاسواق .. و لانقي الابناء من المفكرين المخالفين لنهيق القطيع
..إنها أيام الشيخوخة التعسة التى لم تشهد مثلها أى مرحلة من مراحل عمرى حتى فى ذلك اليوم الذى تأكدت فيه أن جيش عبد الناصر قد هزم وفر من أرض المعركة
هل ارتكبت جريمة فى حياة أخرى أكفر عنها بأن أعيش فى هذا المجتمع الذى تكون إطالة اللحية أو لبس الجلباب فيه علامة من علامات التميز !!تارة و الدق علي الطبول لدعم قرارات المتحكمين .. التميز الأكبر و الأبقي .
هل ارتكبت جريمة أكفر عنها لأعيش فى هذا المكان المنحط من العالم الذى يصبح فيه مجرما إرتكب جرائم عديدة ضد الانسانية مسئولا عن التعليم ..!!أو وزيرا أو محافظا مسئولا .. أم أنه حكم العسكر السلفيين الذى كان دائما وبالا على المصريين ..!!
ما اتعس حياتى على أرضك يا مصر
قصر نظر حكام 2011 حول حلم التخلص من عصابة مبارك الى كابوس استيلاء الاسلام السياسى على الشارع والبرلمان و ضياع جهد البناء في مقاومة ضيق الأفق والغباء الذى استشرى فى كل مجال وضع الاسلاميون عليه بصمتهم بما في ذلك قلاع أسيادنا
برد الشيخوخة يغزو قلبى وعقلى و أنظر امامي فلا أرى إلا الضيق و الصراع المنتظر بعد الاستسلام لصندوق الدين و نفقات أسيادنا المتزايدة.
وأنظر خلفى فلا أجد الا كل إحباط وتشوه وأقارن بين الزمن الذى كانت فيه مصر بؤرة جذب للفنانين والمثقفين..للعلماء والسياسيين .. للفلاسفة والمفكرين .. للرياضيين ،أصحاب رؤوس الأموال ،رجال الأعمال والمتدينين ، وبين هذا الزمن الذى أنهى فيه رحلتي فأجد أن أهلى قد عادوا القهقرى وتحولت امواجهم الهادرة الى بحيرات آسنة كريهة الرائحة لا يعملون أو يزرعون أو يصنعون ، وحتى ما بين أيديهم من مصادر الخير يغلقونها بغباء يندر وجوده الا بين الحيوانات التى تأبى الا أن تكرر أخطاء الآباء والأجداد متبعة الغرائز بعيدا عن إنجازات العقل والخبرة والتجربة
ما أتعس حياتي من المهد للحد علي أرضك يا مصر .. فليسامحك الله يا أمي أنجبتيني في هذا المستنقع .و ليغفر لي الابناء و الاحفادالذين أنجبتهم سذاجتي و حماس شبابي بأن بلدنا في طريقها إلي درب المعاصرة .