نسر حلق في سماء بائيسه !!
أندرو اشعياء
الاثنين ٣١ اكتوبر ٢٠١٦
بقلم / اندرو اشعياء
في غضون شهورًا قليلة بعد وفاة والديهاجعلت منزلها مأوى للغرباء والمساكين وصارت تقبل كل من يقصدها وتقضي له حاجته ولكنبدلًا من أن يذداد اشتياقها لدخول بيت للعذارى امال بعض الأشرار قلبها للخطيه بل وصار بيتها مكانًا للفساد وتحولت زنبقة الحقل الي حية سامة، زهرة ازهرت في الربيع واثمرت في الصيف ولما جاء الخريف جمعت اثمارها في اطباق من الفضة ووضعتها على قارعة الطريق. فكان العابرون من ابناء سدوم وعامورة يتناولون منها ويأكلون بنهم عسى ان تشبع شهواتهم! ولما انقضي الخريف لم تجد سوى ثمرة واحدة أو قل: بعض انفاس متقطعة ابقاها لها الله لتعود اليها الحياة من جديد .. انها بائيسة .
كم من مرة تعطرت وتكحلت لتدعو عشاقها الي ولائمها وحتى تبيع جسدها بالخبز المعجون بالدموع والدماء .. كم من مرة كانت تنتشي وهي ترى الرجال يسكبون انفاسهم المفعمه بسموم الخطية بين طيات اثوابها بل ويضعون تنهدات اشواقهم في يديها ويحرقون انفسهم بخورًا امام تمثالها ثم يلقون بالدراهم تحت رجليها، وعندما تصب من عصير قلبها خمر شبابها كانوا يسكرون ..
سمع آباء شيهيت بما حدث فحزنوا جدًا، وقضوا فترة في الصوم والصلاة من أجلها ثم طلبوا من القديس يحنس القصير أن يمضي إليها، وبالفعل أطاع، وإذ تهيأت لاستقباله، دخل وهو يرتل: "إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك معي" وإذ بها تتفاجأ برجل ليس كما اعتادت إنما يداه خشنتان، قدماه مُشقَّقتان، شعره أشعث، لحيته كثّة، ثيابه رثّة، غطاء رأسه بالٍ، عظام وجنتيه بارزة... كل ما فيه يشي بفقر مدقع، ولكن عيناه يشعّان فرحًا وسلامًا وطمأنينة، وصوته عميق أسيف، ترقّق من كثرة النُسك والصمت، ولكنه واثق حاسم، خطوته خفيفة، فقدماه بالكاد تمسّان الأرض. هو طيف يسري، بل قُل روحًا تحمل ظلًا تتقافز سعيًا نحو الانطلاق...
لحظات قليلة تمر وهي تتأمل وجهًا لم تألفه من قبل، وتراقب يده عسى أن تعرف اجرتها ولكن يصمت رجل الطهارة فلم يألف مثل هذا اللقاء من قبل! وإن تكلم لم ينطق لسانه بغير آسى وها هي لحظات كأنها الدهر، ظل خلالها مصغيًا، مفكرًا، متأملًا، مصليًا حتى نطق لسانه موبخاً اياها. فبكت بمرارة مناجيه نفسها: لماذا صارت مستنقعًا خبيثًا تدب الحشرات في اعماقه، وتتلوى الأفاعي في جنباته .. فإن كانت حياتها كزورق صغير يحمل الناس الي ميناء السعادة، فالزورق بلا ربان، وبعد قليل ستحطمه الأمواج، لأن بحر الشهوه لا يفتح بين أمواجه سوى القبور!
وبصوت جريج كصوت انسان في النزع الأخير يمتزج الحزن والرجاء بين كلماتهسألته إن كان لها توبة، ففتح أمامها باب الرجاء وسألها أن تترك هذا الموضع وتنطلق معه إلى البرية. فأخذها القديس بعيدًا عن سهام الأشرار التي تتربص بها هنا وهناك .. وهناك قدمت توبة وصلت من عمق قلبها فكانت الالفاظ تتصاعد من قلبها كأنها شعلات من نار التهمت كل فكر وعمل ردئ من فكرها .. إذ مال النهار سألها أن ترقد في موضع بعيد، وإذ قام في نصف الليل رأى عمودًا من نورٍ نازلًا من السماء والملائكة تحمل نفسها.
وهكذا اصبح القديس كطائر مغردًا في سماء القديسة ولم يسكت حفيف جناحيه حتى احياها وازال عن قلبها كل ضباب، وبهذا لم يضيع اهتمام والديها بتربيتها هباءًا وايضًا ذكر الله لها خدمتها للفقراء والخبز المُلقى على وجه الماء كما ان الله لا يضيع تعب الخدام إذ كلمة الرب لا ترجع فارغة
جدير بالذكر أن عمل الخير مثل الخبز الملقى على وجه الماء: لابد وأن يعود الينا، بائيسة صنعت خيرًا كثيرًا والله لم ينسه لها، تماما مثلما نقرأ في سير الاباء حين يتعرض اب مجاهد لتجربة وسقوط يقول كاتب سيرته "ولكن الله لم يشأ أن يضيع تعبه أو سابق تعبه" والله لا يمكن ان ينسى عمل المحبة لانه– تبارك اسمه - ليس بظالم. كما أنه ليس هناك مبرر للانحراف ولو كان الفقر، وان كان البعض قد انحرف بالفعل نتيجة الحاجة، مثل النساء اللائي يظلمن من ازواجهن بأي شكل من الأشكال، واضطروا لانتهاج سبل غير كريمة للحصول على احتياجات اولادهن، هذا دمرهم ودمر اولادهم. ولكن الفقر ليس عيبا.
وهكذا فرح القديس يوحنا ومجد الله مع شيوخ البرية الذين كلفوه بهذه المهمة. حتى انهم ويسمون العمل الذي قام به القديس "نزلة صاروخية" كمثل نسر انقض على طير ولكن ليستخلصه لا ليفترسه ..