بقلم : حامد الحمداني
الجيش حسبما تنص عليه كافة دساتير الدول هو حامي الوطن، مهمته الدفاع عنه من أي عدوان خارجي يتهدده، وهو بطبيعة الحال واجب مقدس على كل مواطن عسكرياً كان أم مدنيا، لكن الأنظمة المتتابعة التي حكمت العراق لم تلتزم بهذه المهمة، بل استخدمت الجيش لأغراض داخلية تتعلق بحماية أنظمتها، وغالباً ما استخدمته ضد الشعب.
كان تأسيس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني 1921، على أثر ثورة 30 حزيران 1920 ضد الاحتلال البريطاني للعراق تلك الثورة التي انتشر لهيبها ليشمل كافة أنحاء العراق من أقصى جنوبه حتى أقصى شماله، والتي كلفت بريطانيا ثمناً باهظا في الجنود والمعدات، واضطرت على أثرها تغيير أسلوبها في حكم البلاد المباشر، فقررت الإتيان بالأمير فيصل ابن الحسين ملك الحجاز ونصبته ملكاً على العراق وإقامة ما سمي بالحكم الوطني.
وقد رأت بريطانيا أن تنشئ جيشاً عراقياً يأخذ على عاتقه حماية الأمن الداخلي لدعم الحكم الملكي، مستعينة بمجموعة من الضباط الذين كانوا يسمون بالشريفيين[نسبة للشريف علي بن الحسين ملك الحجاز] الذين خدموا في الجيش العثماني والبالغ عددهم 62 ضابطاً، والذين اعترفت [المس بيل] بأنهم كانوا موالين صادقين لبريطانيا.
لقد أنيط بهم تشكيل وقيادة جهاز الحكم، وكان في مقدمتهم نوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلي جودت الأيوبي، وياسين الهاشمي، محمد أمين زكي، وأمين العمري، وجعفر العسكري، بكر صدقي، ورشيد عالي الكيلاني، وعبد المحسن السعدون، وتوفيق السويدي وشاكر الوادي، ومصطفى العمري، الذين تداولوا على السلطة طيلة الحكم الملكي.
وقد أناطت بريطانيا تشكيل الجيش العراقي بنوري السعيد الذي تولى رئاسة الوزارة 14 مرة، وكان يحتفظ في اغلب وزاراته بمنصب وزارة الدفاع، وحتى لو لم يتولى هذا المنصب فإنه كان يحتفظ بمنصب المفتش العام للقوات المسلحة الذي أناطه به الملك فيصل الأول، وبذلك كان يشرف عملياً على شؤون الجيش.
ولقد أرادت بريطانيا من هذا الجيش الذي شكلت وحداته الأولى في 6 كانون الثاني 1921 ليكون حامياً للنظام، وقامعاً للحركات الثورية التي كانت تندلع بين حين وأخر، وقد استخدم نوري السعيد الجيش لقمع مظاهرات الشعب احتجاجاً على معاهدة 1922، وقمع ثورات العشائر في الفرات الأوسط، وثورة الأكراد في كردستان، كما جرى استخدام الجيش بقمع ثورة الآشوريين في سميل، والأيزيدية في سنجار.
ولم يكد الجيش العراقي يشتد عوده حتى بدأ العديد من قادته ينشدون لهم موقعاً في مراكز الحكم في البلاد، وكان باكورة تلك النشاطات الانقلاب الذي قاده الفريق بكر صدقي في 27 تشرين الأول 1936 بالاتفاق مع الإصلاحيين الذين كان على رأسهم السيد حكمت سليمان، الذي تولى رئاسة الوزارة بعد نجاح الانقلاب، وإسقاط حكومة ياسين الهاشمي، والسيد جعفر أبو التمن، والسيد كامل الجادرجي، وقد جاءت الوزارة بأغلبية من الإصلاحيين.
لكن بكر صدقي بدأ يتجاوز حكومة الإصلاحيين محاولاً فرض إرادته وهيمنته على السلطة، مما دفع الوزراء الإصلاحيين إلى الاستقالة باستثناء رئيس الوزراء حكمت سليمان.
لكن بريطانيا ما لبثت أن دبرت له عملية اغتيال في الموصل، وتحريك بعض قطعات الجيش في الموصل وبغداد، لإجبار حكمت سليمان على الاستقالة. وقد لعب نوري السعيد والعقداء الموالين له صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد الدور الرئيسي في الانقلاب.
واستمر الجيش في لعب دوره في سياسة البلاد على اثر حركة رشيد عالي الكيلاني الذي استعان بالعقداء الأربعة قادة الجيش وهم كل من صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد، وكامل شبيب، ومحمود سلمان، حيث جرى إقصاء الوصي عبد الإله وتعيين شريف شرف بدلاً عنه وتشكيل حكومة برئاسة رشيد عالي الكيلاني .
لكن بريطانيا سارعت إلى إنزال جيوشها في البصرة، والتي زحفت إلى بغداد وأسقطت حكومة الكيلاني، وهرب الكيلاني والعقداء الأربعة واستطاعت بريطانيا إلقاء القبض على قادة الجيش في إيران، وتم إحالتهم إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليهم بالإعدام، وجري تنفيذ الحكم بهم في ساحات بغداد. أما الكيلاني فقد وصل إلى ألمانيا، وبقي برعاية هتلر حتى نهاية الحرب حيث تمكن من الهرب والوصول إلى السعودية التي منحته اللجوء السياسي هناك.
وفي عام 1952 تم استخدام الجيش ضد وثبة الشعب، حيث تم تشكيل وزارة برئاسة رئيس أركان الجيش [نور الدين محمود] وتم إنزال الجيش للشوارع،وتصدى للمتظاهرين وأوقع فيهم الكثير من الضحايا، والقبض على المئات منهم حيث تم إحالتهم للمجالس العرفية، وتم الحكم عليهم بالسجن لمدد مختلفة.
كما تم استخدام الجيش وقوات الشرطة السيارة لقمع انتفاضة عام 1956 على أثر العدوان الثلاثي على مصر، والتي امتدت لتشمل مدن وقصبات العراق كافة، وتم قمع الانتفاضة بالحديد والنار.
كانت تلك السياسات الرعناء قد حفزت العيد من ضباط الجيش لتشكيل منظمات ثورية تهدف إلى إسقاط النظام الملكي، واستطاعت تلك المنظمات أن توحد جهودها في اللجنة العليا للضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي استطاعت تفجير ثورة 14 تموز 1958 وتسقط النظام الملكي، وتعلن الجمهورية بالتعاون والتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني.
كان عبد الكريم قاسم وعدد من رفاقه الضباط في اللجنة العليا يمثلون نوعاً ما، ولحد ما، الوجه الديمقراطي لثورة 14 تموز، لكن الأغلبية كانت ذات توجهات قومية ضيقة الأفق، وطامعة بالسلطة، ولا يعنيها خدمة الشعب، وكان على رأسها عبد السلام عارف الشخص الثاني في قيادة الثورة، وقد سعى هؤلاء الضباط منذ الأيام الأولى للثورة للتآمر عليها والوثوب إلى السلطة، فكانت محاولة انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل، ومحاولة عبد السلام عارف اغتيال الزعيم عبد الكريم، ومحاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية، ومحاولة حزب البعث اغتيال الزعيم في رأس القرية.
وأخيراً تكللت مؤامرات القوى القومية والبعثية بانقلاب 8 شباط 1963 الفاشي بتخطيط وإسناد ودعم من قبل الإمبريالية الأمريكية، وبالتعاون مع عبد الناصر مع شديد الأسف.
ثم أعقب ذلك انقلاب عبد السلام عارف وزمرته من الضباط القوميين في 13 تشرين الثاني 1963ضد حلفائه البعثيين الذين أتوا به إلى قمة السلطة. لكن عبد السلام عارف ما لبث أن دُبر له مؤامرة لقتله على أيدي البعثيين الذين زرعوا له قنبلة في طائرته السمتية في طريقه إلى البصرة انتهت بموته، حيث تولى أخوه عبد الرحمن عارف السلطة بدعم وإسناد من الجناح العسكري القومي العروبي المهيمن على السلطة في البلاد من أتباع عبد السلام عارف.
وقد اتسم حكم عبد الرحمن عارف بالضعف وتخللته الصراعات بين مختلف الكتل العسكرية القابضة على السلطة، وجرت محاولات لانقلابات عسكرية من أعوان عبد الناصر، وكان أبرزها محاولة عارف عبد الرزاق الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء.
وجدت الولايات الأمريكية وحليفتها بريطانيا أن الوضع الهش لنظام عبد الرحمن عارف، والمخاطر التي كانت محدقة بالنظام من قبل القوى اليسارية من جهة، والقوى الناصرية من جهة أخرى ، لا يطمئن ،وحرصاً منهما على مصالحهما في العراق والمنطقة، حيث أقدمتا على تدبير انقلاب عسكري بالتعاون مع زمرة عبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداود ، وسعدون غيدان من جهة، وحزب البعث من جهة أخرى، فكان انقلاب 17 تموز1968 الذي أطاح بنظام عبد الرحمن عارف.
لكن البعثيين لم يكونوا مرتاحين للشراكة مع النايف وزمرته، ولاسيما وان لهم تجربتهم مع عبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً للبلاد في انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ثم انقلب عليهم بعد تسعة اشهر واسقط حكمهم، وتولى السلطة المطلقة في البلاد، فبادروا إلى تنفيذ انقلاب ثانٍ في 30 تموز [أي بعد 13 يوماً من انقلابهم الأول] ضد حكومة رئيس الورزاء عبد الرزاق النايف، وتسفيره إلى خارج البلاد، ومن ثم اغتياله في لندن بعد أن فضح علاقات البعثيين بالأمريكان، واستولى البعثيون على السلطة الكاملة في البلاد بزعامة العميد أحمد حسن البكر، وبمعاونة صدام حسين.
بدأ البعثيون يعيدون النظر في تركيبة الجيش من أجل فرض هيمنتهم المطلقة عليه، فاخترعوا مؤامرة مدبرة ضد نظام حكمهم، وقاموا بحملة إعدامات واسعة بعد محاكمات شكلية غير قانونية طالت عدداً كبيراً من الضباط القوميين، في مسرحية استهدفت إرهاب الضباط ومنعهم من القيام بأي تحرك ضد حكمهم .
واستمروا في عملية تدجين الجيش وإبعاد كل ضابط يُشك في ولائه لهم وفرضوا هيمنتهم المطلقة عليه من خلال فرض الانتماء للحزب على جميع الضباط وحتى المراتب، وأكثر من هذا منعوا أي نشاط سياسي أو حزبي داخل الجيش ما عدى حزب البعث، وفرض النظام البعثي حكم الإعدام على كل من يُشك في انتمائه لأي حزب سياسي، وبوجه خاص الحزب الشيوعي وحزب الدعوة، وجرى إعدام أعداد غفيرة من الشيوعيين ومنتسبي حزب الدعوة طيلة مدة حكمهم.
وبعد أن انقلب صدام حسين على سيده أحمد حسن البكر، وتولى السلطة المطلقة في البلاد، وفرض نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبة عسكرية [ مهيب ركن ] وبدأ يفرض سطوته على الجيش بأقسى الوسائل الإرهابية تمهيداً لشن الحرب على إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، تلك الحرب التي دامت 8 سنوات، وقد جيّش صدام حسين خلالها كل أبناء الشعب بالقوة، وخلق له جيشاً عرمرماً، ومنح الرتب العسكرية لحزبيين من دون مؤهلات، ومنح ارفع الرتب العسكرية لحسين كامل، وصدام كامل، وعلي حسن المجيد، وعزت الدوري، وأعداد كبيرة من أبناء عشيرته التكارتة الأميين، بغية إحكام سيطرته على الجيش، وجرى تنفيذ أحكام الإعدام بحق الكثيرين من الضباط بحجة عدم تنفيذ أو مخالفة الأوامر الصادرة منه، وهو الذي يجهل العلم العسكري جهلاً تاماً.
كما سخر كل مدخرات وموارد البلاد للتسلح مما أدى ذلك إلى نتائج وخيمة على اقتصاد البلاد، وتراكم الديون الهائلة على العراق.
وبغية معالجة أزمته الاقتصادية أقدم على غزو الكويت في 2 آب 1990، تلك الجريمة التي ساقت الجيش العراقي إلى حرب مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبعض الحلفاء العرب، وأدت إلى كارثة للجيش العراقي لم يعرف لها مثيلاً من قبل.
وأندحر جيش صدام، وتم فرض شروط وقف إطلاق النار في خيمة صفوان، وتم فرض نزع أسلحة الدمار الشامل على نظام صدام الذي قبلها صاغراً من أجل بقاء نظامه، وبقائه على رأس النظام.
لكن مراوغاته المستمرة، ولعبة القط والفار التي مارسها مع الولايات المتحدة جعلها تقرر إسقاط حكمه، وبذلك تحقق هدفين في آن واحد، التخلص من نظام صدام حسين الذي احترقت أوراقه، وفرض هيمنتها المطلقة على العراق طالما يطفو العراق على بحر من النفط، فكانت الحرب التي شنتها في 20 آذار 2003، والتي انتهت بانهيار نظام صدام في 9 نيسان بعد أن دامت الحرب الدموية عشرين يوماً، وجاءت على الأخضر واليابس كما يقول المثل، حيث دمرت البنية التحية للعراق بكاملها، ولم تسلم أية منشأة مدنية كانت أم عسكرية من التدمير، ومن نهب الميليشات ، وكان أخطرها سرقة أسلحة الجيش العراق من قبل الميليشيات التابعة للأحزاب القومية الكردية، والعصابات البعثية بعد أن أصدر الحاكم المدني الأمريكي [ بريمر] قراراً بحل الجيش، وسائر الأجهزة الأمنية، تاركاً البلاد لعصابات الجريمة من جهة، وتحول إعداد غفيرة من منتسبي الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية إلى حمل السلاح والقيام بنشاط إرهابي بعد أن تم طردهم من وظائفهم دون مورد، وبذلك اقترفت الولايات المتحدة خطأً جسيماً، بل جريمة كبرى بحق الشعب والوطن، حيث تركت البلاد دون جهاز أمني يتولى حماية الأمن والنظام العام، مما تسبب في وقوع وتواصل الأعمال الإرهابية في البلاد.
وبعد أن شكلت قوات الاحتلال مجلس الحكم، وأصدرت قانون إدارة الحكم الذي نصت إحدى مواد القانون على تولي شخصية مدنية لوزارة الدفاع في خطوة لأبعاد العسكر من الهيمنة على الحكم من جديد لمنع أي محاولة لقيام انقلاب عسكري في البلاد، وإبعاد الجيش عن السياسة والانتماءات الحزبية كما أدعت.
لكن الذي جرى بعد أن سلم المحتلون الأمريكان مقاليد الحكم لقوى الإسلام السياسي جاء على العكس من ما أعلن عنه المحتلون عند حلهم الجيش فتحول الجيش من جيش صدام إلى جيش يضم كافة ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي، وتولي عناصر أمية لا علاقة لها بالجيش مناصب عسكرية عليا، وكان لهذا الإجراء نتائج وخيمة عند ما شنت ميليشيات الإسلام السياسي الشيعية الحرب الأهلية بين عامي 2006 و2007، واقترفت من الجرائم الوحشية البشعة ما فاقت كل تصور، وأدت على تشريد اكثر من 4 ملايين مواطن من بيوتهم ومدنهم هرباً من بطش الميلشيات تلك، وكانت تلك الميلشيات تمارس جرائمها وهي تلبس اللباس العسكري في الجيش والشرطة.
إن الجيش العراقي بتركيبته الحالية بات أشبه ببرميل بارود، لا يلبث أن ينفجر عند أية أزمة سياسية يمكن أن تعصف بالبلاد، طالما بقي مرتعاً لعناصر ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي، حيث يهدده الانقسامات بسبب ولاء أفراده لأحزابهم السياسية.
أن معالجة هذه الوضع الخطر للجيش والقوى الأمنية يتطلب إعادة النظر الجذرية بتكوين الجيش على أساس الولاء للشعب والوطن، وليس للأحزاب السياسية، ولا بد من إبعاد عناصر الميليشيات هذه عنه، ومنع أي نشاط سياسي داخل الجيش، وتثقيف أفراده بالثقافة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، واحترام حقوق وحريات المواطنين، فقد كفى شعبنا العراقي ما قاساه على أيدي العسكر منذ تأسيس ما يسمى بالحكم الوطني عام 1921 وحتى يومنا هذا.