يوم من عمري لا ينسي

فاروق عطية
     روعتني الأسابيع الماضية المملوءة بالرعب والكوارث والدماء وحرمتني السكينة وراحة البال. كوارث رهيبة منها كوارث طبيعية ومنها كوارث بشرية. من كوارث الطبيعة (7 /10/2016) إعصار ماثيو القوي (193كم/ ساعة) الذي ضرب كوبا وكلومبيا وجمهورية الدمنيكان وهايتي وخلّف دمارا وسوي أكثر من 80 % من مباني هايتي بالأرض، كما دمر أكثر من 30 ألف منزلا، وقتلي أكثر من 1600 شخصا ( 1 في كلومبيا، 4 في جمهورية الدمينكان، 1600 في هايتي) إضافة لـ 60 ألف لاجئ بحاجة عاجلة للمساعدة، ثم عرّج علي قلوريدا بعد أن انخفضت سرعته إلي 120 كم/ ساعة متسببا في بقاء أكثر من مليون شخص دون كهرباء، وكان للتحذيرات التي وجهتها الحكومة الأمريكية وإجلاء نحو مليونين من مواطنيها من منازلهم في فلوريدا وجورجيا وجنوبي كارولينا كإجراء احترازي لوصول الإعصار الإقلال من عدد القتلي الذي وصل عددهم لـ 49 شخصا وتدمير عدد من المنازل واقتلاع بعض الأشجار.

   إعصار هايما (18/10/2016) الذي ضرب شمال الفلبين وتسبب فى خسائر واسعة النطاق، كان مصحوبا برياح بلغت سرعتها 225 كم/ساعة، وقد اجبر نحو مائة ألف شخص على النزوح من المناطق الساحلية والمناطق المنخفضة. تسبب في تدمير عدد كبير من المنازل وأدى إلى سقوط خطوط الطاقة واقتلاع الأشجار، إلى جانب الفيضانات وحدوث الانهيارات الأرضية التي تسببت في عزل عدة قرى كما أعاق عمليات الاتصال وجهود الإنقاذ، كما دمر حقول الارز والذرة. و لقى 12 شخصا على الأقل حتفهم.

   لم يكتف إعصار هايما بما سببه من دمار بالفلبين وانتقل إلي هونج كونج (21/10/2016) برياحه التي قاربت 100 كم/ ساعة وأسفر عن اصابة ثمانية جرحى بينهم أربعة في حالة خطيرة، وأدى إلى إغلاق المدارس والبورصة وإلغاء حوالى 700 رحلة جوية في مطار هونغ كونغ بسبب الأمطار الغزيرة والرياح العاتية.

   وفي 26/10/2016 انتقل هايما إلي جنوب الصين. الخسائر الاقتصادية المباشرة الناجمة عن الكوارث الطبيعية المصاحبة للإعصار في ولايات جوانج دونج و جيانج شي وفوجيان الواقعة في جنوب البلاد، بلغت 4,76 مليار يوان (حوالي 702 مليون دولار).  وتضرر 240 ألف قطعة أرض مزروعة، وتهدم 600 منزل وأصيب 3200 منزل بأضرار بالغة. وكان قد تم إجلاء 700 ألف شخص في المناطق التي ضربها الإعصار، كما جرى تحذير الأهالي من السيول وانزلاقات الأرضبة التي يمكن أن تحصل بسبب منسوب المياه المرتفع في السدود. وتوفي 13 شخص على الأقل، كما أدي الإعصار إلى تعطيل خدمات السكك الحديدية في مقاطعات جيانج شي وفوجيان وجوانج دونج وجوانج شي جنوب الصين، وتم اصدار أمر بايقاف خدمات إجمالي 85 قطارا يعمل بشكل اساسي بين جيانج شي وفوجيان، كما تم تعليق عمل جميع القطارات التي تسير بين جوانج تشو وشنتشن وهونج كونج أيضا.

   سيول في مصر (27-30 أكتوبر) بسلسلة جبال البحر الأحمر وسيناء أدت لغرق العديد من المدن في قنا وسوهاج وأسيوط وبني سويف والسويس والاسماعيلية والغردثة ورأس غارب (الأكثر تضررا) والعريش وشرم الشيخ. والغريب أن هيئة الأرصاد الجوية قد أصدرت قبل 5 أيام بياناً توقعت فيه تعرض محافظات سيناء وسلاسل جبال البحر الأحمر وجنوب الصعيد لأمطار غزيرة ورعدية تصل لحد السيول، وعلى المحافظين اتخاذ كل التدابير اللازمة للتقليل من الآثار الناجمة عن سوء الأحوال الجوية، لكن كالعادة لم تتخذ الاحتياطات اللازمة للتقليل من آثارها التدميرية أو الاستفادة من هذه الثروة المائية التي أهدرت هباء رغم ما نعانيه من فقر في مواردنا المائية مع بناء سد النهضة الأثيوبي. دمرت السيول مئات البيوت وأتلفت عشرات الأفدنة من الأراضي الزراعية، كما أدت لعشرات القتلى والجرحي (14 قتيل علي الأقل ووإصابة 45 في رأس غارب وحدها)، فيما واجهت مدن بمحافظتي البحر الأحمر وجنوب سيناء عزلة تامة بعد توقف حركة السفر على الطرق المؤدية إليها، كما اختفت السيارات تحت المياه الكثيفة في الشوارع وأتلفت المحال التجارية والمؤسسات الخدمية فتوقفت حركة المرور تماما، مما دفع وزارة النقل لدفع فرق لصيانة الطرق المتضرة.

   أما الكوارث بفعل البشر فهي أشد وأفظع من كوارث الطبيعة. حواث القتل الممنهج في كينيا ونيجيريا يقوم بها عصابة بوكو حرام. وقتل وتدمير وتفجير مستمر بلا توقف في ليبيا بأيدي العديد من التنظيمات الإسلامية المتنوعة. وحرب ضروس يقودها جيش العراق المدعوم بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة السعودية وقطر ضد قوي الظلام والإرهاب داعش لاستعادة الموصل، أيضا حرب موازية يقودها جيش سوريا مدعوما بتحالف دولي آخر تقوده روسيا ويشترك فيه قوات إيرانية وحزب الله اللبناني ضد التنظيمات الآسلامية كالنصرة وجيش الشام وداعش لتحرير حلب من قبضتها. وحرب لا تقل شراسة يقودها خير أجناد الأرض جيش مصر ضد عصابات بيت المقدس وداعش المدعومة بعصابات حماس الغزاوية لتنظيف سيناء من رجسهم وشرورهم.

  وأفجع الكوارث البشرية التي استفذتني كما استفذت ملايين البشر المحبين للسلام حول العالم ما حدث عصر السبت 8 أكتوبر 2016 بصنعاء عاصمة اليمن الذي كان سعيدا فيما مضي، فبعد الغارات غير القانونية على المدارس والأسواق والمستشفيات وحفلات الزفاف والمنازل وقتل آلاف المدنيين على مدى 19 شهرا الماضية، أضاف التحالف بقيادة السعودية مراسم عزاء إلى قائمة انتهاكاته المتزايدة.  فقد تعمد الهجوم على  قاعة عزاء لأسرة آل الرويشان جنوب العاصمة صنعاء (لوفاة علي الرويشان والد وزير الداخلية في الحكومة القائمة في صنعاء جلال الرويشان) بغارات جوية واستهداف مع سبق الإصرار الأعداد الكبيرة من المدنيين، فقد تعمد تنفيذ “هجوماً مزدوجاً” على تجمع المعزين، وقد أدت الضربة الثانية إلى سقوط المزيد من المعزين والمسعفين لضحايا الغارة الأولى. والتوقيت بين الغارتين يؤكد الاستهداف المتعمد لـ”الضربة المزدوجة” برغم القانون الإنساني الدولي الذي “يحظر” الهجمات ضد العاجزين عن القتال والجرحى وأفراد الخدمات الطبية ووحدات الإنقاذ. ونتج عن لهذه المجزرة اللاأخلاقية مقتل أكثر من 140 شخصا، وجرح 525 آخرين. من بين الضحايا 20 شخصا على الأقل مسؤولون رفيعو المستوى في حزب "المؤتمر الشعبي العام" التابع للرئيس السابق علي عبد الله صالح، ومن الحوثيين المعروفين أيضا باسم "أنصار الله"، والمسؤولين العسكريين والأمنيين.  كما أحدثت الغارات دمارا كبيرا في المباني المحيطة بقاعة العزاء. وقد استخدمت الطائرات المغيرة قنابل "جي بي يو – بايفواي 2، بوزن 225 كجم موجهة بالليزر أمريكية الصنع، . استند التحديد إلى استعراض صور ومقاطع فيديو لزعنفة التوجيه التي بقيت سليمة وعليها علامات المصنع.

   لكل هذه الكوارث التي اجتمعت في أيام قليلة ، أصابني الإحباط والكآبة وعكفت منطويا لا أخرج من مخدعي، حتي طرق بابي صديق عزيز، هاله ما أنا فيه من كآبة وحزن فأصرّ علي أن نخرج للتريض مشيا. حاولت التملص لكنه أصر فبدلت ملابسي وخرجت معه. سرنا في شارع دندس وست حتي وصلنا إلي "محل كابول فارمز" رقم 3015. ابتسم صديقي وقال: خلف هذا المحل يوجد بار، هيا بنا نذهب لتحتسي كوبا من البيرة المثلّجة لتنعشك وتنسيك همومك التي تعيشها بلا داع.

    دلفنا إلي البار وكان شديد الصخب والجلبة، موسيقي راقصة تنبعث من دي جي وشباب يتقافز ويتمايل رقصا. طلبت من صديقي أن نغادر المكان إلي مكان آخر أقل صخبا. وقبل أن يجيبني اقتربت مني وهي تتمايل ثملي وقالت: هيا صديقي اعزمني علي كأس من البيرة. هي سيدة بولندية في الخمسينات من عمرها، مازالت تتمتع بمسحة من الحمال والدلال. تقيم في البناية المجاورة للبناية التي أقيم. تقابلنا مرارا في طريقنا للأوتوبيس ذهابا إلي عيادة العلاج الطبيعي. كنت أحييها بابتسمة فترد علي بابتسامة عريضة. تجاذبنا ذات يوم أطراف الحديث، عرفت منه أن إسمها جوليانا، وهي أرملة منذ عام. ولم يزد تعارفنا أكثر من ذلك، حتي التقينا اليوم وطلبت لها كأس من البيرة . حاول صديقي أن يحادثها فأشاحت بوجهها عنه. لاحظت أنها وصلت لدرجة عالية من السكر قد تجعلها تفقد وعيها، فطلبت منها أن أصحبها إلي دارها فوافقت.       ا     إستأذنت من صديقي علي أن أعود له بعد توصيلها فقال باسما: لاعليك، دبر حالك واستمتع بوقتك، ربما مسحت بأناملها حزنك وأعادتك لمرحك. أعطتني مفاتيحها وأشارت إلي سيارتها، فهي لا يمكنها السياقة وهي في حالتها هذه. أوصلتها لبنايتها فارتمت علي كتفي وراحت تغط في نوم عميق. فتحت باب البناية وسألتها عن رقم شقتها فقالت بصوت متحجرج 910.  فتحت باب شقتها وأدخلتها لغرفة نومها، وبمجرد وضع رأسها علي وسادتها راحت في نوم عميق. أسقط في يدي وتساءلت، لو وضعت المفاتيح بجوارها وغادرت كيف أغلق عليها شقتها ؟ إذا تركت الباب دون إغلاق ما أدراني أن أحدا ربما يدخل ويسرق محتوياتها، وحين تستيقظ قد تظنني الفاعل ؟ أو ربما قتلت أو ماتت لأي سبب سأكون مسؤولا عن موتها، خاصة وهناك عشرات الشهود رأوني أخرج معها من الحانة، والمباني مزودة بكاميرات صورتي دون شك وأنا أصعد بها وأفتح باب شقتها، وأنا أخرج منها ؟. وإذا بقيت بجوارها حتي الصباح، ربما بعد فوقانها قد تنسي أنني صحبتها من الحانة وقد تظن أني دخلت إلي مسكنها خلسة..!! فكرت طويلا ثم اتخذت قراري بإغلاق شقتها وآخذ مفاتيحها معي وفي الصباح أتصل بها تليفونيا وأشرح لها الموقف ثم أذهب لأعطائها مفاتيحها.

   لم أستطع النوم طوال الليل وغفت عينايا مع مطلع الفجر، وفجأة وجدت من يهزني هزا عنيفا، فأفقت لأجد رجال البوليس حولي، وحين فتحت عيناي سألني أحدهم: لماذا قتلتها، أقسمت أنني لم أقتلها، قلت: فقط أوصلتها من الحانة إلي غرفة نومها وأغلقت بابها وخرجت، وهذه مفاتيحها لازالت معي. نظر إلي متهكما ووضع الأصفاد في يدي وساقني إلي سيارة الشرطة ولفيف من الناس ينظرون ويتساءلون. فانفجرت باكيا كالأطفال وصحوت علي أنامل أم العربي تجفف دموعي وتتساءل عن سبب بكائي.