الأقباط متحدون - «فن» الحذر من الآخر
  • ١٥:٢٤
  • الاثنين , ١٤ نوفمبر ٢٠١٦
English version

«فن» الحذر من الآخر

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٤٤: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ١٤ نوفمبر ٢٠١٦

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

حاولتْ أمى سِنِى عمرى أن تعلّمنى أسرارَ ذاك الفن الصعب. وكان الإخفاقُ حليفَنا. ومع الوقت وتكرار المحاولات والفشل، أدركت أمى بذكائها أن إخفاقى ليس لضعف قدراتى العقلية، بل بسبب عدم اقتناعى بضرورة هذا الفن فى حياة كل إنسان. ربما علّمتها تجاربها أن «الآخر هو الجحيم»، كما يُجتزأ من مقولة سارتر، وعلينا الحذر منه، فأرعبها أن ترى طفلتها تضع فى الناس كامل ثقتها دون حذر ولا استرابة، فعدلتِ الخطّة ونذرت عمرها فى محاولة بث الخوف داخلى من خداع الناس وشرورهم عساى أصدق أن الناس ذئاب لا يجوز أن نكون على سجيتنا معهم كما كنت أفعل فى طفولتى ثم صباى ثم شبابى ثم فى مراحل نضوجى وحتى اليوم، ودون شك لآخر يوم فى عمرى.

انتبهت أمى لتلك «المشكلة» فى شخصيتى منذ كنت فى الصفوف الأولى من المدرسة. ما إن أصل إلى باب العمارة عائدة من المدرسة، حتى أُلقى بحقيبة كتبى لـ«عم عبده» البواب، وأركض لألحق بهذه العجوز أو تلك التى تمشى فى الشارع تتوكأ على عصاها حاملةً كيسًا كبيرًا من الورق المقوى تبرز منه عيدان خبز الباجيت الفرنسى وألوان الخضروات والفاكهة. أحمل عنها الكيس وأسير معها حتى أوصلها إلى باب شقتها. كان عجائز اليونانيين والأرمن يسكنون بغزارة شارعنا ومنطقة السرايات بالعباسية. ولسبب ما كنت، ومازلت أعشق المسنين وأضعف أمام ضعفهم. وكلما لمحتُ سيدة عجوزا أسارع بحمل حِملها عنها، ويعذبنى عدم قدرتى على حمل السيدة نفسها فوق كتفى لأخفف عنها آلام المشى. عم عبده البواب يصعد ليسلّم الحقيبة لأمى قائلا جملته المتكررة كل يوم: «ست فافى رمت الشنطة وجريت تشيل مشتروات العجايز». وكالعادة تُعنّفه أمى قائلةً: «وليه سبتها تروح يا عم عبده؟ فيجيبها بالإجابة ذاتها وهو يدير ظهره متجهًا إلى المصعد: هو فيه حد بيلحقها يا مدام سهير، مانتى عارفة». أهبط من عمارة السيدة وأركض إلى عمارتنا، ثم أعلو ببصرى نحو نوافذ شقتنا، فأجد أمى واقفةً تشير بالإشارة المصرية الشهيرة: (ثلاثة أصابع مفرودة، والإبهام والسبابة معقودان يشكلان دائرة)، يعنى علقة سخنة بانتظارى.

وبالفعل. ما إن أدخل البيت حتى أجد وصلة من التوبيخ والنذير وكلمات من قبيل: «مرّة حد هايدبحك، بطّلى تشيلى حاجة لحدّ!» فأعدها تحت التهديد بألا أكرر فعلتى، وأنا أعلم أننى سأكررها. استمرّ حالى فى محبّة الناس غير المشروطة، وتصديقى لكل ما يُقال، على فرضية أن الناس لا يكذبون أبدًا. وتطوّر خوف أمى علىّ مع تطور الأمر مع سنوات عمرى، فأصبحت أُقِلّ فى سيارتى الغرباءَ، من المُسنّين والحوامل والمُعوقين، لأوصلهم إلى بيوتهم، فكانت أمى تقصّ من الجرائد مقتطفات من حوادث محزنة للصوص خدّروا أشخاصًا أقلّوهم فى سيارتهم بدافع الشفقة، وسرقوا متعلقاتهم أو قتلوهم. ولم أخف. ولم أتعلم «فن الحذر من الآخر». وكنتُ دائمًا أجيب من ينصحنى: هل نجعل الأشرارَ يعلّموننا كراهية الطيبين؟!

ومن بعد أمى تسلّم زوجى المثقف مشعلَ «التحذير من الناس». سلّمته أمى مع يدى مسؤولية علاجى من «العبط» كما كانت تسمّيه. «البشر ليسوا حملانًا طيبين. يجب أن تأخذى حذرك منهم». وكنتُ أجيبهم بأن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته». ولكن المشكلة أن إدانته هذه تثبت بعدما تكون الكارثة قد وقعت.

وبالفعل وقعت كوارثُ لا حصر لها. خُدعت كثيرًا، ونُصِب علىّ كثيرًا، وصُدمت فى الناس عشرات المرات، ودفعت أثمانًا باهظة مقابل ثقتى المفرطة ببشر لا يستحقون الثقة. وأعلم أن أثمانًا باهظة فى انتظارى سأدفعها لأننى بعدُ لم أشأ أن أتعلم أسرار هذا الفن العسر: «فن الحذر من الآخرين». ويبقى السؤال: هل نسمح للأشرار أن يرسموا لنا خطّة حياتنا، فنحرم الطيبين من حبّنا ومد يد الخير لهم؟!
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع