فى مثل هذا اليوم 19 نوفمبر 1896م.. سجن «كيرلس» بتهمة إفشاء أسرار عسكرية
سامح جميل
٤٩:
٠٨
ص +02:00 EET
الأحد ٢٠ نوفمبر ٢٠١٦
كتب سامح جميل
ازدحمت محكمة عابدين بالجماهير، حتى أن بعض قاصديها دفعوا أجرا يتراوح بين نصف جنيه وجنيهين للشخص الواحد، حسبما يؤكد «إبراهيم الهلباوى» فى مذكراته «مكتبة الأسرة - القاهرة»، لحضور جلسة محاكمة الشيخ على يوسف، صاحب جريدة «المؤيد»، و«توفيق كيرلس أفندى» الموظف بمكتب تلغراف الأزبكية، فى القضية المرفوعة ضدهما من «ناظر الحربية» لنشر «المؤيد» برقية تلغراف صادرة من اللورد كتشنر قائد حملة الجيش المصرى إلى «دنقلة - شمال السودان».
كان المصريون هم قوام هذه الحملة، التى تستهدف إخضاع «دنقلة» لبريطانيا باحتلالها، وحسب أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس حلمى الثانى، فى مذكراته «مكتبة الأسرة - القاهرة»، فإن البرقية وردت لمكتب تلغراف الأزبكية باللغة الفرنسية إلى ناظر الحربية وتحتوى على «566 كلمة» تتعلق بأحوال الحملة، وأخذت مباشرة من المكتب إلى نظارة الحربية، حيث سلمت لأحد «الجاويشة» الإنجليز فأرسلها فوراً إلى ناظر الحربية بمنزله فتلاها بمفرده، واحتفظ بها، ولكن صدرت جريدة المؤيد وبها نص هذه الإشارة السرية مترجما إلى اللغة العربية».
قرأ «ناظر الحربية» الجريدة فاعتبر أن هذا إفشاء لأسرار عسكرية، ووفقاً لـ«شفيق باشا»، فإن «الناظر» كلف «ملحمة بك شكور» أحد كبار موظفى نظارته بالتوجه إلى مكتب التلغراف لمعرفة المسؤول عن إذاعة هذه البرقية»، وبعد التحقيق ومراقبة الموظفين اتضح أن توفيق أفندى كيرلس الموظف بمكتب التلغراف هو الذى نقل الصورة حرفيا، وسلمها لـ«المؤيد»، فرفعت الدعوى العمومية على الشيخ على يوسف وتوفيق كيرلس أفندى، ونظرت القضية فى يوم 17 نوفمبر، وتولى الدفاع عن المتهمين الأستاذان إبراهيم الهلباوى بك وأحمد الحسينى بك».
أما «الأسرار العسكرية»، التى احتوت عليها البرقية فهى: «الوباء يفتك بالجنود المصريين» حسب تأكيد «أحمد بهاء الدين» فى كتابه «أيام لها تاريخ» عن «دار الهلال - القاهرة» مضيفاً: «حظيت المحاكمة باهتمام الرأى العام كله، كما كانت مناسبة لإلقاء المرافعات الوطنية علنا ليسمعها الناس جميعا»، ويلقى «الهلباوى» الضوء على هذه المرافعات: «كانت منصة القاضى مشغولة عن يمنيه وشماله بكثير من رجال القضاء ورجال النيابة، وكان من بينهم صاحب الدولة المرحوم عبدالخالق باشا ثروت مندوبا بصفته رسمية من المستشار القضائى»، ويضيف: «استعرضت فى مرافعتى تصرفات النيابة وما فرط منها من انتهاك حرمات المساكن وتوجيه أسئلة عرضت للشبه والمظان السيئة، كتصرفها مع والدة وشقيقة توفيق كيرلس، وعند شرح هذه التصرفات قوى عطف الجمهور على المتهمين حتى سالت دموعهم من شدة التـأثير، بل لم يستطع القاضى نفسه إخفاء دموعه أيضا».
نطقت المحكمة حكمها فى مثل هذا اليوم «19 نوفمبر 1896» وقضت ببراءة الشيخ على يوسف والسجن ثلاثة أشهر على عامل التلغراف، وفور النطق بالحكم «علا صياح الناس وهتافهم لاستقلال القضاء وعدل القضاء» حسب تأكيد «الهلباوى» فى مذكراته، ويدلل على حالة السعادة بما حدث من «محمد بك فريد»، رئيس الحزب الوطنى: «كان وقتئذ من وكلاء النيابة العمومية بمحكمة الاستئناف، ولم يتمالك نفسه من إظهار سروره بهذا الحكم، ونطق بكلمات عدت ماسة بالمستشار، وقد بلغت له لأنها سمعت من كثيرين من الحاضرين، ولهذه الحادثة قرر المستشار القضائى نقل «فريد بك» إلى رياسة نيابة بنى سويف، فعدها انتقاما منه لا نقلا تقتضيه المصلحة، ورفض قبول النقل واستقال من وظيفته، وهذا كان آخر عهده بخدمة الحكومة».
أدت استقالة محمد فريد إلى إصابة والده «أحمد فريد باشا» بالغم ويذكر «أحمد لطفى السيد» فى مذكراته «قصة حياتى» عن «الهيئة العامة للكتاب» أنه كان والشيخ محمد عبده فى جنيف بسويسرا وذهبا لزيارة «أحمد ثابت باشا» وكان مهردارا للخديو إسماعيل «حامل الأختام ويساوى رئيس الديوان» وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا والد محمد فريد، وكان ناظراً للدائرة السنية ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام أخد فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده، ويبكى، وكان وقتئذ مريضا ويقول للشيخ: «هل يصح يا سيدى الأستاذ أن يهزئنى محمد فريد فى آخر الزمن ويفتح دكان أفوكاتو «مكتب محام».
قام محمد عبده بتهدئته معرباً له بأن «الاشتغال بالمحاماة ليس فيها ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس».
استأنفت النيابة على حكم البراءة، واستأنف «توفيق كيرلس» على الحكم بسجنه، لكن محكمة الاستئناف أيدت الحكم.!!
الشيخ على يوسف وتوفيق كيرلس أفندى..