بقلم: ماهر طلبة
حين تلقى الضابط البلاغ تعجب.. نقل عينيه بين البلاغ ومقدمه عدة مرات.. (الرجل لا غبار عليه).. أعاد النظر إلى البلاغ، تحول التعجب فى عينيه إلى شك..(منذ زمن طويل لم يحدث هذا.. ا لشارع ينزف دما؟!).. لابد أن الرجل مجنون.. بهدوء دق الجرس.. دخل العسكري المنتظر  –دائمًا- على الباب.
- اذهب به.
رفع سماعة التليفون طالبًا مستشفى الأمراض العقلية.. لم يفهم الرجل شيئًا لكنه سار مع العسكري دون اعتراض.. ابتسم  "شارع ينزف دما!".. انتابته حالة من الضحك الهستيري.. "مجنون".. التفت إليه العسكري
- أفندم؟
 -اغلق الباب خلفك.
خلد إلى الراحة.. حاول أن يتناسى ذلك البلاغ المجنون، بدأت تعود إليه  حالته العادية.. فجأة رن جرس التليفون رنات متواصلة.. رفع السماعة ببطء.. كان المتكلم يسرع في سرد حكايته عن شارع ينزف دمًا.. أسرع بفكره إلى المجنون.. "هل هرب؟!.".  ضغط زر الجرس.. سأل العسكري – حين دخل –
- أين الرجل الذي أخذته من هنا؟
- في الحجز سيادتك..
احتار.. صرفه بإشارة من يده.. وواصل مكالمته.. كان المتحدث هذه المرة  شخصية مرموقة.. "لايمكن أن يكون قد اختل عقله هو الآخر".. وضع السماعة.. صمم أن يذهب بنفسه ليرى مدى صدق هذه المزاعم.. خرج.. أدى إليه العسكرى المنتظر – دائمًا – على الباب التحية.. أمره أن يسرع بتعبئة إحدى العربات بالعساكر .. ارتفعت يد العسكري من جديد بالتحية.. وأسرع لتنفيذ الأمر.
عند وصوله إلى الباب الخارجي وجد أن العربة قد حملت بالعساكر، وإنهم على أهبة الاستعداد،..أدى له سائق عربته التحية، أمره وفكره منشغل عنه وعن تحيته بالذهاب إلى الشارع.. استعد السائق للانطلاق.. وصل إلى سمعه همهمات صادرة من الخلف، نهر عساكره.. امتنعت الهمهمات..
تحركت العربة.. بعد قليل.. صارت الحركة أبطأ من المعتاد.. والآن توقفت العربة تمامًا وسط بحر من العربات المتوقفة.. أمر عددًا من عساكره بالنزول من العربة والذهاب لمعرفة سبب هذا التوقف.. تسابق العساكر إلى تنفيذ الأمر.. مرت الدقائق ثقيلة.. هرب بفكره إلى المكتب والجلسة المريحة والهواء الرطب والعسكري المنتظر –دائمًا على الباب يُأمر فيطيع كجن ألف ليلة وليلة.. انتبه على صوت الحذاء الذى يحتك بالأرض مؤديًا التحية..
- ماذا يوقف المرور؟
كان العسكري قد تلبسته حالة غريبة.. فلم يكترث.. أعاد السؤال عليه من جديد.. رفع العسكري رأسه ولم يدر بما يجيب فصمت، ماذا يقول.. صرخ في وجه:
- انطق!
 ازدادت حيرة العسكري وخرجت الكلمات من فمه ميتة..
- الشارع ينزف دمًا..
- اللعنة على عقولكم الخربة..أي شارع هذا الذي ينزف دمًا.. أليست لكم عقول؟!!..
زاد صمت العسكري وحيرته من ضجره وغضبه فأخرج كل ما في جعبته من لعنات على رأس العسكري الصامت..
- احك ما رأيت بالتفصيل
عينا العسكري العالقتان فى الفضاء ظلتا على حالهما دون حراك حتى ظنه مات.. أسرع بمغادرة العربة والتحرك إلى أول الطريق لعله يعرف السبب.. في طريقه قابل عساكره عائدون.. كانت تشملهم حالة الذهول.. زال شكه.. أمرهم صارخًا بالتوقف.. جمع من كان فى العربة.. أمرهم بأخذ الوضع الأقصى للاستعداد، على الفور.. أخرج كل عسكري أسلحته من جرابه ورفع درعه الزجاجي أمام وجهه..
كان راكبو السيارات ينظرون بإعجاب إلى العساكر وهم يتقدمون في خوذات الحرب.. يلقون على مسامعهم كلمات الاستحسان.. وصل إلى أول طابور السيارات.. كانت مجموعات من العسكر تسد الشارع، تفصل بأجسادها بين راكبي السيارات المحتجزين خلفهم وبين الشارع الذي يموج بالحركة.. بصوته الجهوري .. أفسح لنفسه مكانا بين العسكر.. حتى استطاع الوصول إلى الصف الأول.. نظر.."يا للشياطين، ما هذا..؟!!". كانت الدماء على الأرض تسيل.."الشارع ينزف "... أحيا لون الدم في داخله إحساسًا غريبًا.. شعور بالخوف يتجمع حوله.. يحتويه.. تجمعت ألوان من الدروس والتعليمات والأوامر الصادرة.. ما تعلمه في سنوات عمله.. رفع صوته بالاستعداد.. جاءه.. من عساكره الصمت أمر بالهجوم..غاص العساكر في بحر الدم الآخذ في الإحاطة بهم.. عملت أيديهم في سرعة ومهارة..  تزايد الدم.. أحس الجنود أنهم يغرقون.. أن الدماء تبتلعهم.. تغسلهم.. وتتركهم نازفين..
ترك الضابط الشارع ورجع إلى سيارته مسرعًا، أمر السائق بالعودة إلى القسم.. أدى العسكرى المنتظر - دائمًا - على الباب التحية.. أمره أن يسرع ليعبئ العربة بالعساكر.. هرول العسكرى المنتظر – دائمًا- لتنفيذ الأمر..
جلس على مكتبه.. شرع في كتابة تقريره.. أصوات جلبة وضوضاء تصل إلى سمعه  آتية من الخارج نظر من الشباك.. الدماء تملأ الشارع تواصل تقدمها بإتجاه القسم.. غادر المكتب مسرعًا.. أمر الجنود بالانتشار.. هاله حالة الجنود وبقع الدم التي بدأت فى الظهور داخل القسم.. أسرع  إلى التليفون لطلب العون.. لا مجيب.. أحس أنه قد عزل عن العالم.. بينما الدم يواصل تقدمه يحيط بالقسم من جميع الجهات.. ويحتويه.