قصة الأيام الأخيرة في حياة توفيق الدقن: أخفى حقيقة مرضه وقال لابنه «لم أترك لك شيئًا تخجل منه»
فن | المصري اليوم لايت
الجمعة ٢٥ نوفمبر ٢٠١٦
نصحه السعدني برفض الأدوار الثانوية فقال: «دول يسيبوك تموت من الجوع»
«من الأول يا أستاذ»، مشهدٌ داخلي، يتنقّل المخرج بين الكواليس غاضبًا، بسبب إخفاق محاولات إتمام المشهد، نظرًا لارتباك الممثل الشاب الذي يُرافق الفنان، محمود المليجي، فتتحول جملة «من الأول يا أستاذ» إلى تعليمات يُمليها المخرج على الفنان، محمود المليجي، والفنان الصاعد آنذاك، توفيق الدقن، داخل أحداث فيلم «أموال اليتامى» بطولة الراحلة، فاتن حمامة، والذي عُرض عام 1952.
وبعد دقائق من انتهاء المشهد، كان هُناك مشهد آخر داخل حجرة المليجي، حيثُ جلس توفيق الدقن مُعتذرًا ويبرر ما حدث: «سبب ارتباكي أمامك هو أنتَ»، يتنهد الدقن للحظات إلى أن يستجمع قواه ويُكمل كلماته قائلاً: «يا أستاذ محمود، عليك أن تعلم أن والدتي هي التي وقفت بجواري حتى أعمل بالتمثيل، أبي كان رافضًا أن أمتهن هذه المهنة، كان يريد أن أكون أزهريًّا مثله، لكن والدتي ساعدتني ووقفت بجواري، وكان لها شرط وحيد لكي تدعمني وتواصل الوقوف بجواري».
وبصدرٍ رحب دفع المليجي الفضول ليسأل: «ما هو هذا الشرط؟»، فأجابه الدقن: «اشترطت والدتي أن أكون مثلك، محمود المليجي»، فردّ عليه المليجي ضاحكًا: «اعتبر نفسك يا راجل محمود المليجي نفسه».
قبل ذلك بسنوات، كان يجلس توفيق أمين محمد الدقن، في محافظة صعيدية الطابع والهوى، المنيا، يُفكر كثيرًا كيف سيدخل إلى طريق الفن، فهو الطالب الذي يعمل موظفh في السكك الحديدية، لكي يساعد والديه، وخوفًا من أن يرهقهما، التحق عقب تخرجه في معهد الفنون المسرحية بالمسرح الحُر، وسط صيحات غضب الأب وتشجيع الأم التي شعرت بموهبة ابنها، وتمنّت أن يصبح في يوم من الأيام كمحمود المليجي.
لم يُحقق توفيق الدقن أمنية والدتi فحسب، بل أصبح صديقًا مقربًا من محمود المليجي، وكان «المليجي» يرشح «الدقن» لأدوار كثيرة تُعرض عليه، قائلًا: «روحوا لتوفيق الدقن أنا مش فاضي، وهو أصلح مني للدور ده»، كما ذكر ابن توفيق الدقن، «ماضي»، في حوار أجراه مع مجلة «أكتوبر».
في تلك الفترة، كانت الأدوار التي تُعرض على «الدقن» إما قليلة أو لا تُناسب مسيرته الفنية، حسبما سجّل في حوار الكاتب الراحل، محمود السعدني، حيثُ صارح «الدقن» وقتها بأنه يقوم بأداء أدوار لا تُناسب تاريخه، ليرد الأخير قائلًا: «أنا باخُد 50 جنيه، بياخدوا استقطاعات، بيبقوا حاجة وتلاتين جنيه، وبعدين تيجي ضرائب ويخصموا بدل السفر، في الآخر ييجي توفيق الدقن، صاحب الـ3 عيال، واللي ملتزم قدام المجتمع بالتزامات مُعينة، في الآخر بياخد 19 جنيه، دول بيدفعوا أجرة البيت ولّا يكفوني لحد آخر الشهر؟، أنا اضطريت أعمل حاجات مش راضي عنها عشان أعيش».
لم تشفع أسباب «الدقن» المذكورة سابقًا عند السعدني، واقترح عليه «طب ما تسيب الأدوار دي، وهم هيجروا وراك»، فردّ «الدقن» بنبرة لا تخلو من السخرية «دول يسيبوك تموت من الجوع، ويُمعنوا في قتلك أكتر والديون هتزيد عليّا».
وبكلماتٍ قليلة، لخّص «الدقن» حال الوسط الفني، آنذاك، وكيف يتم التعامل مع القامات الكبيرة، أو بالأحرى أجاب عن سؤال «كيف يعبث الزمن بكبار الفنانين؟»، قائلًا: «أنا بجري في كُل طريق؛ المسرح، التليفزيون، الإذاعة، وبجري في البيت كمان».
في 6 يونيو 1983، شهدَت القاهرة رحيل الفنان، محمود المليجي، حزنت الجماهير والأوساط الفنية، ولكن «الدقن» كان حزنُه مختلفًا، رحلَ عنه صديقه ومثله الأعلى، فكان موته أشبه بخيطٍ سحب «روايح» الزمن الجميل، ظلّ «الدقن» يقول لابنه «ماضي»: «يا ماضى يا ابنى.. خلاص.. أنا شامم رائحة الرحيل قادمة».
«شكلك عجّزت»، تلك الجملة قالها الكاتب المسرحي المصري، نعمان عاشور، لصديقه «الدقن» في حوار نادر، سجلا فيه مشاكسة الأصدقاء، وجاء رد الأخير قائلاً: «لازم أعجز، ده أنا داخل على 50 سنة، وبقالي 20 سنة على المسرح»، وبعيدًا عن السخرية والدعابة، قال: «الأيام لا تُقاس بالسنين، والأعمال لا تُقاس بطولها ولا عرضها، بل بجديتها وكيفية تقديمها، إذا كان 50 سنة فاضيين، يبقى مالهُمش لازمة».
وفي أواخر أيام توفيق الدقن، كان يشعُر بالمرارة، ويقول: «أنا فيه 3 سنين ضايعين مني محسوبين عليّ في الحياة وأنا ماشفتهمش»، حيثُ كان لهُ أخ أكبر منه بثلاث سنوات وتُوفي، ولكن جد توفيق رفض أن يستخرج لهُ شهادة ميلاد، وعاش بشهادة ميلاد أخيه، ورغم شهرة تلك الحكاية التي قد تبدو «أسطورية»، إلا أن الصحف آنذاك كتبت عن إحالة توفيق إلى المعاش بشكل كبير، وهو لم يكُن بلغ سن المعاش بعد.
لم تكُن سن «المعاش» في أواخر أيام توفيق الدقن على الأوراق الرسمية فقط، بل ظهرت في تعامل المخرجين معهُ، ولعل أبرز ما وثّق ذلك حكاية ابنه «ماضي» عن كتابة اسم «الدقن» على الأفيش السينمائي بعد فنانين أصغر منهُ قيمة وسنًّا، كما قال في حلقة برنامج «ممنوع من العرض» المُسجلة عن مشوار «الدقن»: «في فيلم (وداد الغازية) كُتب اسمه بطريقة ضايقته بعد مَن هُم أقل قيمة بكثير منه، وأفتكر إن في يوم من الأيام اتقاله اكتب اسمك قبل محمود المليجي، قال لأ ميصحش، في آخر أيامه زعل، وكان كُل أصحاب الرحلة رحلوا، قال (الوقت ده مش وقتي، وأنا شكلي كده هعتزل)».
أُصيب «الدقن» قبل سنوات من رحيله بمرض الفشل الكلوي، وهو ما أخفاه عن الجميع، كما قال ابنه «المقربين بس اللي قالهم»، ولكنه لم يستسلم أبدًا للمرض حتى عند دخوله المستشفى، لم يستطع تقبُّل عدم قدرته على السير واستخدام الكُرسي المتحرك، كبديل مؤقت، وسخر من ذلك، قائلًا: «أنا بكره الأدوار دي في التمثيل، أديني بعملها في الحقيقة».
وفي أواخر الثمانينيات، عُرض على توفيق الدقن المشاركة في مسلسل «الوريث»، وعلى الرغم من مرضه، لم يرفض، عملًا بمبدئه في الحياة «مفيش دور صغير ودور كبير، فيه ممثل صغير وممثل كبير»، وصارح المخرج بحقيقة مرضه قائلًا: «هسافر معاك بس متقولش لحد، وليا غسلتين في الأسبوع».
قال الشاهد على جُزء كبير من حياة توفيق الدقن، الماكيير، محمد عشوب، خلال استضافته في برنامج «ممنوع من العرض»: «توفيق على أد ما عمل وشِرب في حياته، كان في أيامه الأخيرة لا يترُك المصحف ولا يفوته فرض، حتى أثناء التصوير، تحس إن ربنا رضي على هذا الرجل قبل وفاته، اتحوّل، بقى فيه تقارب بينه وبين ربنا، كان يقرأ القرآن وختمُه أكثر من مرة، ويقرأ الأحاديث في أواخر أيامه.. بقى ماشي لا يحمل إلا القرآن».
وعند تصويره آخر أعماله الفنّية، داهمته ذبحة صدرية، بجانب المرض المُزمن، وفي تلك المرة لم يستطع الهرب، رغم التزامه حتى في لحظاته الأخيرة، كما يقول ابنه: «وقتها كلموه عشان كان في تصوير في (ستوديو مصر)، مقدرش يقولهم لأنه مكنش يحب يقول أنا تعبان، قالهم (هجلكُم بُكرة)»، ولكن النهار لم يُمهل توفيق الدقن ليفي بوعده الأخير، ورحل في 26 نوفمبر 1988، وكانت آخر كلماته لابنه: «لم أترُك لك شيئًا تخجل منهُ».