هل المعارك المتزامنة في سرت، حلب، الموصل والرقة تنذر حقا بنهاية الدولة الاسلامية؟
ميشيل حنا حاج
الثلاثاء ٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
ميشيل حنا الحاج
ترتفع علامات التفاؤل بقرب اقتراب نهاية الدولة الاسلامية، مع اشتداد المعارك المتزامنة ضدها في كل من ليبيا وسوريا والعراق. وقد ينطوي ذلك على مدعاة لتفاؤل حقيقي في تحجيمها، لكن ليس في استئصالها تماما. ولكنه تحجيم قد يستمر لبعض الوقت فحسب، لأن الدولة الاسلامية، طالما هي فكر لم يقابل بفكر مقابل، ستظل قادرة على البقاء حية ولو الى حين، وستكون دائما تمتلك امكانية انبعاثها مجددا، ان لم يكن أيضا باماكانية احتفاظها ولو بقدرة عسكرية أقل، أو ببعض معالم الحياة التي لن تخبو تماما، وقد تكون قادرة بسرعة البرق على تجديد نشاطها واستعادة حيويتها.
وقبل الخوض أكثر في الموضوع، أود أن أذكر بأمرين، يشكلان دليلين هامين على ذاك الاحتمال:
أولا) ان ابرز مثال على أن الفكر لا يموت تماما ما لم يقابل بفكر مقابل يمحوه تدريجيا، ملاحظة أن فكر بن تيمية الذي أطلق قبل تسعة قرون تقريبا، تفسيراته المتشددة لبعض الآيات القرآنية الكريمة وبعض أحاديث الرسول (ص)، قد خفت تأثيره لبعض الوقت، لكنه عاد للانبعاث بعد سبعة قرون تقريبا على يد الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي سرعان ما انتشرت دعوته في السعودية، ولاحقا في بعض دول الخليج. واذا كانت قدد خفتت لبعض الوقت في القرن التاسع عشر، فقد عادت للانبعاث في منتصف القرن العشرين على يد سيد قطب، أحد أقطاب حركة الاخوان المسلمين والذي قاد الجناح المتشدد فيها. ورغم قيام الحكومة المصرية بتنفيذ حكم الاعدام فيه عام 1966 بعد ادانته بتهمة التآمر على اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادثة المنشية، فان أفكاره...أفكار بن عبد الوهاب، أفكار بن تيمية، لم تمت أبدا، اذ تلقتها يد أخرى بعد رحيل سيد قطب ببضع سنوات، وأحيتها مجددا بتبني نهجها. وكان المتلقي هذه المرة هو أسامة بن لادن، ومن ثم حركة طالبان، ومعهما الدكتور أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة، وعلى يمينه يقف أبو محمد الجولاني، أمير جبهة النصرة (فتح الشام)، كما يقف أبو بكر البغدادي على يساره في موقف أكثر تشددا ومغالاة في رفض الآخر. وذلك دون تناسي تواجد أمراء كل من بوكو حرام في نيجيريا، وشباب الصومال في الصومال، وأبو سياف في الفلبين، وغيرهم كثر من المنتشرين هنا وهناك.
ثانيا) أن الولايات المتحدة تخوض منذ ستة عشر عاما ( دخلت الآن عامها السابع عشر) حربا في أفغانستان ضد تنظيم مشابه هو في الواقع التنظيم الأم الذي انبثقت منه الدولة الاسلامية، وضد طالبان أيضا المتحالفة مع القاعدة. ومع ذلك فان هذه الحرب لم تحقق نتيجة حاسمة، بل لم تحقق نتيجة على الاطلاق. فالقاعدة ما زالت ناشطة في الخارج، وطالبان لم تزل ناشطة وقوية في داخل أفغانستان، وتنفذ بين يوم وآخر هجمات على عدة مواقع، شمل أحدها مهاجمة قيادة القوات الأفغاننية ووزارة الدفاع في ذاك البلد الذي نكب في حرب دامت طويلا ولم تزل.
ومن هنا قد يمكن التساؤل عن السبب الكامن وراء هذا التفاؤل بالنسبة لمصير الدولة الاسلامية التي قد تنجح كل هذه المعارك المتزامنة في عدة أقطار، في استئصال الدولة الاسلامية خاصة والارهاب عامة لبعض الوقت، ولكن ليس لكل الوقت، لأنه سيكون هناك دائما بن تيمية آخر، محمد بن عبد الوهاب آخر، سيد قطب آخر، أسامة بن لادن آخر، والأرجح أبو بكر البغدادي آخر، ما لم يجابه فكرهم غير الصحي (كي لا أقول المريض) بفكر بل أفكار مقابلة، منها الفكر الديني الصحيح، والفكر القومي العروبي وغيره من الأفكار القومية، والفكر العلمي والعلماني ...بل كلها مجتمعة. فهذا الفكر المقابل، هو وحده القادر على استئصال الفكر الظالم والظلامي الذي ينشره هؤلاء. أما الاعتماد على القوة النارية فحسب، فتلك لن تستأصله. قد تحجمه بعض الشيء، قد تؤخره لبعض الوقت، لكنها لن تستأصله تماما، اذ قد يدخل في سبات لبعض الوقت ، ليعود للاستيقاظ مجددا بعد بعض الوقت أيضا.
ويستند بعض المراقبين وخصوصا البنتاغون في رؤيتهم التفاؤلية تلك، الى تراجع عدد المنضوين شهريا تحت جناح الدولة الاسلامية. ويذكر الأستاذ جاسم محمد، المتخصص في قضايا الارهاب ورئيس المركز الدولي لمكافحة الارهاب، في مقال له نشر مؤخرا على موقع رؤية، أن تقارير البناتعون تشير الآن الى تراجع عدد المنضوين الجدد تحت جناح الدولة الاسلامية، من الفين متطوع جديد شهريا الى مائتين، مما قد يعني تراجع عدد المقاتلين من المنتسبين الجدد تراجعا واضحا. فاذا أضفنا اليهم خسائرهم البشرية في ميادين القتال المتعددة، لا بد أن نلاحظ بأن الدولة الاسلامية باتت تواجه فعلا موقفا صعبا، لكن ليس يائسا تماما.
فالمقاتلون الليبيون القادمون من مصراطة لينفذوا عملية البنيان المرصوص في مدينة سرت، يقاتلون الدولة الاسلامية على مدى سنة كاملة، ولم ينجحوا بعد في تطهير هذه المدينة الواحدة من مقاتليهم، اذ لم تزل هناك جيوب للمقاومة لم تزل ناشطة وفاعلة.
والقوات السورية بالتعاون مع سلاح الجو الروسي وحلفاء آخرين، تحاصر شرق حلب منذ عدة شهور في محاولة لتطهيرها من ارهابيين من نوع آخر، هم ارهابيو القاعدة المنضوين تحت جناح جبهة النصرة، وقد نجحوا فعلا في تطهير نصف حلب الشرقية منهم، والأرجح أن يتمكنوا من تطهيرها منهم تطهيرا كاملا خلال شهر آخر أو شهرين. الا أن هذا التطهير لن يكون كليا أو شاملا، اذ من المرجح أن ينتقل أولئك المقاتلون الى ادلب القريبة، لتضطر الدولة السورية بعدها، لخوض معارك أخرى في كل من ادلب والرقة، ربما في آن واحد.
وفي شمال سوريا تجري عدة معارك ضد مقاتلي الدولة الاسلامية ولا أحد يدري من يقاتل من هناك. فالأمر بمثابة حساء (شوربة) خضرة، فيه الكل يقاتل الكل، ولا توجد خطوط واضحة المعالم هناك. فبينما كان جيش سوريا الدمقراطي الموالي للولايات المتحدة، يقوم بمؤازرة قوات الحماية الكردية بتطهير الشمال السوري من مقاتلي الدولة الاسلامية، ونجحوا فعلا في تطهير بعض قراه ومدنه بما فيها مدينة منبج، تدخلت القوات التركية فجأة تحت جناج جيش سوريا الحر (مع جنود أتراك وغطاء جوي تركي) لتبدأ هي الأخرى عملية تطهير المنطقة من مقاتلي الدولة الاسلامية، فحررت جرابلس وأعلنت بأنها ستمضي قدما في عمليتها العسكرية حتى تحرر مدينة الباب الحدودية، مع توجيه انذار لقوة الحماية الكردية بوجوب مغادرة مدينة منبج الاستراتيجية، ومع انذار آخر باحتمال حصول مواجهة بين الطرفين ان لم تغدرها. وهنا تدخلت القوات السورية بالتحذير أن تحرير مدينة الباب هي مهمة الجيش السوري وليس أي جهة أخرى. وادعت تركية في مرحلة ما، أن سلاح الجو السوري قد قصف القوات التركية الساعية لدخول مدينة الباب، وتسبب بوقوع قتلى وجرحى بين صفوف القوات التركية وجيش سوريا الحر.
وبالنسبة لمدينة الرقة، فقد أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تنتظر حسم معركة الموصل لتبدأ بعدها معركة الرقة، بل ستشرع بها فورا رغم علمها بانشعال القوات السورية، صاحبة الحق الأقوى في تحرير تلك المدينة، في معركة حلب الدامية. بل وكشفت الولايات المتحدة بأنها سوف تستعين في عزلها، بجيش سوريا الدمقراطي الذي أثبتت التجارب، كما قال الأميركيون، أنه القوة الوحيدة القادرة على القتال بجدارة. ولكن جيش سوريا الدمقراطي ذو الغالبية الكردية، أعلن بأنه لن يكتفي بعزل مدينة الرقة، بل سيسعى لتحريرها متجاهلا دور الجيش السوري في ذلك والمتوقع بعد انتهاء معركة حلب. وهنا أعلنت تركيا بأن قواتها هي التي ستحرر الرقة اذا تدخلت قوات الحماية الكردية، الظهير لجيش سوريا الدمقراطي، في عملية تحريرها.
أما بالنسبة لمعركة تطهير الموصل من مقاتلي الدولة الاسلامية، فيما يسمى بمعركة قادمون يا نينوى، فقد دخلت شهرها الثاني واستطاعت فعلا أن تحرر القوات العراقية بمؤازرة من التحالف الأميركي، عددا كبيرا من القرى المحيطة بالموصل، وربما دخلت بعض أحيائها الواقعة على الجانب الآخر من النهر. لكنها لم تتمكن بعد من عبور النهر، بل ولم تتمكن بعد من تحرير مطار الموصل الذي تعلن منذ أسبوعين أنها تقترب منه، وأنها باتت على بعد كيلومترات قليلة من المطار. ولكن اذا كانت القوات الليبية بمؤازرة 400 اغارة جوية أميركية على مواقع الدولة الاسلامية في سرت، لم تنجح بعد في تطهير المدينة تطهيرا كليا بعد سنة كاملة من القتال، فكيف يتوقع البعض أن يجري تطهير الموصل، وهي مركز الثقل بالنسبة لتلك الدولة (خلافا لسرت التي كانت أقل أهمية واستعدادا للقتال اضافة لكونها أصغر حجما من الموصل)، أن يتم تطهيرها في مدة تقل عن السنة الواحدة على الأقل، كي لا نقول سنتين وربما أكثر.
ومن هنا ينبغي التشكيك بالتفاؤل الأميركي المبالغ فيه كثيرا في امكانية استئصال الدولة الاسلامية بالسرعة التي يتوقون اليها، واهمها قبل انتهاء ولاية الرئيس اوباما في العشرين من شهر كانون الثاني القادم. فالعقبات في طريق النجاح في انجاز هذه المهمة كثيرة ومنها:
أولا) عدم وجود تنسيق بين القوى الكبرى (روسيا والولايات المتجدة) تسعى لانجاز هذه المهمة بنجاح ولو نسبي وفي وقت أقصر.
ثانيا) الخلافات بين المنتمين لجناح واحدـ، وعدم اقتصار الأمر على عدم التنسيق فيما بينها، بل وجود مصالح متضاربة بين ما يريده هذا الطرف وذاك. فالولايات المتحدة تناصر الأكراد، لكن تركيا، حليفتهم الأخرى، تعاديهم وتتضارب مصالحها مع مصلحتهم، اضافة الى تضارب المصالخ بين الولايات المتحدة وحلفاءها في دول الخليج,
ثالثا) أن الولايات المتحدة تمر في مرحلة انتقالية بين رئيسين، أحدهما لم يزل في موقع الرئاسة، لكنه عاجز عن اتخاذ قرارات جوهرية وحاسمة في أيامه الأخيرة، وآخر منتخب ولم يتول بعد سلطاته الدستورية، ولدى توليها، لن يكون قادرا على اتخاذ قرارات جوهرية في الأشهر الأولى من رئاسته، لأنها تخصص عادة لاطلاعه على مجريات الأمور قبل الاقدام على اتخاذ قرارات حاسمة.
رابعا) أن الرئيس القادم ليست لديه رؤية واضحة للأمور، وقد لا يكون في موقع لاتخاذ قرارات جوهرية قبل مضي فترة طويلة تتجاوز مرحلة اطلاعه على كل الحقائق. أضف الى ذلك أنه لديه رؤيا متناقضة فيما يريد أن يفعله. فهمه الأول كما يبدو هو عداءه لايران، وهذا بالنسبة له أكثر أهمية من عدائه للدولة الاسلامية رغم عدائه للاسلام تنفيذا لمفهوم الاسلامو فوبيا. لكنه في ذات الوقت يريد مقاتلة الدولة الاسلامية أيضا بسبب عدائه ذاك. يقابل ذلك رفضه لتمكين تركيا ودول الخليج من نصرة حركات المعارضة المسلحة في سوريا، ليس ارضاء لما يبدو أنه صديقه الرئيس بوتين، بل لكونها جميعها تصطبغ بصبغة اسلامية يوصف بعضها بالاعتدال وبعضها الآخر بالارهابية والمتشددة، وهو لا يريد حكومة اسلامية أخرى في سوريا. كلها اذن متنافضات، وسيحتاج لوقت طويل كي يحسم أمره ويقرر في أي اتجاه سيتجه. وهذا التردد والتناقض بين ما يريده، قد يساعد الدولة الاسلامية على البقاء حية وقوية منتظرة للمتغيرات القادمة.
خامسا) تضارب المصالح الروسية والأميركية بالنسبة لمستقبل أكراد سوريا, فروسيا الاتحادية قد تتقبل، رغم الاعتراض السوري، حكما ذاتيا لأكراد سوريا في جزء من مناطق شمال سوريا حيث تتواجد الدولة الاسلامية، خلافا للموقف الأميركي الذي تدل العديد من المؤشرات على أنها تسعى لتحقيق دولة مستقلة تتحالف أو تندمج مع كردستان العراق المزمعة على اعلان استقلالها قريبا. وفي هذا ما فيه أيضا من تعارض مع الاستراتيجية التركية الرافضة سواء للحكم الذاتي، أو للدولة الكردية المستقلة، اضافة لنقضها الاتفاق مع بوتين الذي صمت عن تدخلها في الشمال السوري، مقابل اقناعها لحلفائها في حلب بالانسحاب من شرق حلب، لكنها لم تفعل، علما أن حلفاءها هناك كثر، ومنهم الكتائب التركمانية، وجيش سوريا الحر، الى كتائب نور الدين زنكي والجبهة الشامية، اضافة الى جنود أتراك بملابس مدنية يقاتلون الى جانب المعارضة المسلحة.
سادسا) ان المخطط الأميركي الذي اعتمد في مؤتمر عقد في واشنطن قبل عدة شهور وشارك فيه وزراء دفاع ورؤساء أركان ثلاثون دولة من الدول الستين المنخرطة في التحالف الأميركي ضد الارهاب والذي قرر الشروع بمعركتي تحرير الموصل والرقة في وقت قريب، اعتمد نهج استخدام القوة العسكرية دون اعتماد نهج الفكر المقابل، الذي هو السلاح الأقوى والأشد فعالية، مما بات معه من المرجح فشل المعركة العسكرية حتى لو حققت انتصارات ما، لأنها ستكون مجرد انتصارات مؤقتة ولفترة زمنية قصيرة. وهذه المخاوف عبر عنها بصراحة، اثر انتهاء الاجتماع المذكور، وزير الدفاع الأميركي، عندما أبلغ المجتمعين ورجال الاعلام، بأننا قد اعتمدنا الحرب ضدهم، وسوف نحتويهم عسكريا، ولكن هل يمكنهم (يمكنكم) احتواء أو استئصال أفكارهم؟
وهكذا صدق وزير الدفاع الأميركي مع الجميع عندما حذر من تعذر استئصال أفكارهم. كل ما في الأمر أنه لم يطرح وجوب التعامل مع الفكر السلفي التكفيري بفكر مقابل كما يقول عقلاء القوم ومنهم بعض الأميركيين كما لاحظنا. فهل من مستمع لهم؟؟؟
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن.
عضو في اتحاد الكتاب والمفكرين الأردنيين.