تأسيس الرشدية العربية (20)
مقالات مختارة | مراد وهبة
الاثنين ٥ ديسمبر ٢٠١٦
ماذا يعنى تأسيسها؟
يعنى أن تتحول الرشدية العربية من مجرد فكرة إلى تيار. وهذا التحول من فكرة إلى تيار هو المعنى الكامن فى تطور الحضارة الإنسانية. ومن هنا يكون التحدى لأى فكرة تريد أن تحدث تطويراً للحضارة أن تتحول إلى تيار. ولكى يتحقق هذا التحول يكون من اللازم تدخل مفهوم التراكم. والتراكم، فى أصله، يتسم بأنه كمى، أى تراكم أفكار حول الفكرة المحورية التى تشير إلى ضرورة التطوير. إلا أن هذا التراكم الكمى محكوم بنهاية محددة، وتحديدها يحدث فى اللحظة التى تتحول فيها الفكرة إلى تيار، أى عندما يتحول التراكم الكمى إلى كيفى. مثال ذلك: الثورة الفرنسية: بدايتها فكرة التنوير عند فلاسفة أوروبا، وبالذات إنجلترا وفرنسا وألمانيا.
والسؤال إذن:
ماذا حدث لهذه البداية؟
تراكمت حول فكرة التنوير أفكار متعددة، قد تبدو متباينة، إلا أنها تدور حولها وكلها تسهم فى إعمال العقل بجسارة فى اقتحام المحرمات الثقافية والحفر فيها حتى نصل إلى جذورها، فنجتثها، وعندئذ نصل إلى النقطة الزمانية التى يتحول فيها التنوير من مجرد فكرة إلى تيار. وقد تحددت هذه النقطة بعام 1789، وهو عام الثورة الفرنسية الذى فيه تأسس التنوير كتيار.
وتأسيساً على ذلك يمكن إثارة السؤال الآتى:
ما هى النقطة الزمانية التى عندها تتحول الرشدية العربية من مجرد فكرة إلى تيار؟
إلا أن هذا السؤال يسبقه سؤال آخر وهو على النحو الآتى:
ماذا حدث من تراكمات حتى نصل إلى تحديد هذه النقطة الزمانية؟
عقدت الجمعية الفلسفية الإسلامية الأمريكية مؤتمرها السنوى فى عام 1977، وكان عنوان بحثى الذى ألقيته «ابن رشد والتنوير». وكان تعليق رئيس المؤتمر محسن مهدى، الذى كان فى حينها أستاذاً للفلسفة الإسلامية ومديراً لمركز الشرق الأوسط بجامعة هافارد، أن هذا البحث قد كشف عن مسألة مهمة، وهى التعتيم على نشأة الرشدية اللاتينية فى أوروبا فى القرن الثالث عشر، إذ من الملاحظ أنه ليس ثمة رسالة ماجستير أو دكتوراة عن الفترة التى تم فيها انتقال ابن رشد من العالم الإسلامى إلى العالم الغربى.
وفى عام 1979، ألقيت بحثاً تحت عنوان «مفارقة ابن رشد» فى المؤتمر الفلسفى الثانى الذى عقدتُه فى القاهرة تحت عنوان «الإسلام والحضارة»، وكانت المفارقة فى هذا البحث تعنى أن ابن رشد حىٌّ فى الغرب ميتٌ فى الشرق. وقد أثار هذا البحث جدلاً فلسفياً دولياً حاداً انتهى إلى القول، فى أغلبه، إلى أنه ليس ثمة علاقة بين ابن رشد والتنوير، بل ليس ثمة علاقة بين ابن رشد وما حدث من تيار تنويرى فى أوروبا. واتُهِمت بأننى أفتعل هذه العلاقة «لغرض فى نفس يعقوب». أما أنا فلم أفهم ما هو الغرض الذى يكمن فى نفس يعقوب ويكمن فى نفسى.
وفى عام 1994، عقدت الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير مؤتمرها الأول تحت عنوان «ابن رشد والتنوير». وحدثت اللحظة الكيفية عندما انضمت جامعة القاهرة ممثلة فى رئيسها الحالى المتنور والمبدع الأستاذ الدكتور جابر نصار فى فتح باب الجامعة لدخول الفيلسوف الإسلامى العظيم ابن رشد. وأنا هنا أدعو الجامعات المصرية الأخرى بل الجامعات العربية إلى إدخال ابن رشد حتى يمكن الدخول فى حوار مع أوروبا فى عصرها الرشدى الذى كان يطلق عليه «عصر الرشدية اللاتينية» من أجل تأسيس تيار يؤلف بين الرشدية العربية والرشدية اللاتينية من أجل تأسيس رشدية إنسانية تسهم فى اجتثاث جذور الإرهاب.
نقلا عن المصري اليوم