الدولة حين تعد ولا تفي بالوعود
فاروق عطية
الخميس ١٥ ديسمبر ٢٠١٦
فاروق عطية
لا أدري لماذا كلما حاول الرئيس عبد الفتاح السيسي رفع مستوي شعبيته المتدهورة تعمل حكومة المهندس شريف إسماعيل الموقرة علي استرجاع تدنيها، وآخر هذه المحاولات أتت بعد انعقاد مؤتمر الشباب وما قام به الرئيس من جهود لاستقطاب الشباب بحزمة من الإجراءات الجيدة كالعفو عن 82 شابا كدفعة أولي، وأن معظم من شملهم قرار العفو هم من شباب الجامعات، ومن بينهم أيضا الباحث في العلوم الإسلامية إسلام بحيري المحبوس لمدة عام بتهمة "ازدراء الأديان" ويستند القرار إلى المادة 155 من الدستور والتي تعطي رئيس الجمهورية حق العفو عمن صدر ضدهم أحكام نهائية، وكان السيسي قد قرر- في ختام المؤتمر الأول للشباب الذي عقد بشرم الشيخ في أكتوبر الماضي- تشكيل لجنة تقوم بفحص ومراجعة موقف الشباب المحبوسين على ذمة قضايا، مطالبا بتوسيع نطاق عملها ليشمل الشباب الصادر بحقهم أحكام نهائية. وما أن بدأت شعبية الرئيس في الارتفاع حتي فوجئنا بإعلان المهندس شريف اسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، بطرح المرحلة الأولى من أراضى مشروع تنمية المليون ونصف المليون فدان، وذلك خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده يوم الثلاثاء 18 أكتوبر، وتشمل المرحلة الأولى للمشروع طرح 500 ألف فدان، من مساحات أراضى بأربع مناطق هي: الفرافرة القديمة "100 ألف فدان"، واحة المُغرة بمنطقة العلمين "170 ألف فدان"، ومنطقة غرب المنيا "120 ألف فدان"، بالإضافة إلى مساحات بمنطقة توشكى ” 110 ألف فدان"، والمشروع يخصص مساحات بمواقع متميزة من هذه الأراضى لصغار المزارعين والشباب المصريين بحق التمليك، بينما يخصص مساحات أخرى من الأراضى للمستثمرين المصريين والعرب والأجانب، وسيتم طرح كراسة التأهيل، والتى تتضمن المعايير الفنية والمالية والقانونية للمستثمرين اعتباراً من يوم الثلاثاء الموافق 25 أكتوبر، وتُسلَّم كراسة الشروط والمواصفات للمستثمرين المؤهلين لاختيار الأراضى وتقديم عطاءاتهم المالية والفنية.
كان قرار المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء بطرح أراضي النوبة للبيع "110ألف فدان"ضمن خطة طرح 500 ألف فدان للبيع للمستثمرين مصريين أو أجانب، كاطلاق شرارة اندلاع ثورة شباب النوبة مطالبين بحق العودة لموطن الأجداد. يقول البعض أن وراء اندلاع ثورة النوبيين أصابع الإخوان الذين يستغلون كل هفوة لتأليب الشعب المصري ضد حكومة ما يسمونه حكومة الانقلاب، وبث دعايتهم المسمومة لجميع دول العالم منددين بضياع حق الأقليات في مصر. سيان كان للإخوان يد في ذلك أم هي ثورة استرداد حق ضائع، ولكن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن الحكومة برعونة مقصودة أو غير مقصودة هي التي تعطي الفرصة تلو الفرصة لمن يتربصون بمصر لاستغلال سقطاتها المتكررة.
وحتي نتفهم أسباب ثورة النوبيين دون النظر لأي أصابع تعبث، نبدأ بتسليط بقعة من الضوء علي بلاد النوبة، ونتلوها بعرض مشكلتهم منذ عصر محمد علي باشا حتي اندلاع ثورة العودة لأرض الأجداد.
أرض النوبة هي المنطقة التي تشمل كل من شمال السودان وجنوب مصر على طول نهر النيل، وهي منطقة خصبة وتتمتع بثروة سمكية ضخمة، فضلا عن وجود الكثير من المعادن وعلى رأسها معدن الذهب المتواجد بكثرة في أرض النوبة وهو السبب في تسميتها بـ ”أرض الذهب”. القبائل التي تسكن شمال السودان تتحدث باللغة الفاديجية، حين تتحدث قبائل جنوب مصر باللغة الكنزية. ويرد النوبيين أصلهم إلي ”حام” ابن “نوح ”عليه السلام، ويعمل أغلب سكان النوبة في الزراعة وصيد الأسماك وصناعة الفخار والخزف.
بدأت أزمة النوبة منذ فترة حكم محمد علي باشا، وتحديداً في عام 1841، حيث صدر فرمان تقسيم الحدود والذي أدي لتقسيم أرض النوبة إلي قسم مصري وآخر سوداني، وفي عام 1899 أصدرت سلطة الاحتلال البريطاني”اتفاقية الحكم الثنائي”، والتي وقعت مع الحكومة المصرية، والتي ترتب عليها إعادة ترسيم الحدود المصرية السودانية، مما أدى إلى تحويل قرى نوبية مصرية لسودانية، وما تبقى من القرى النوبية المصرية تم ضمه تحت إدارة مديرية أسوان، مما أدى لتفتت وحدة الأرض النوبية.
في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني تم بناء خزان أسوان"عام 1902" بارتفاع 106 مترا للاستفادة بمياه الفيضان مما تسبب في غرق 10 قرى نوبية، وفي عام 1912 تمت زيادة ارتفاع الخزان لتصل إلي 114 مترا ليبتلع الفيضان 8 قرى نوبية جديدة، وفي عام 1933 تمت تعلية الخزان إلي 121 مترا، مما قضى علي 10 قرى أخري، ليصل إجمالي القري النوبية التي دمرت إلي 28 قرية.
في عام 1962 قررت الحكومة المصرية، إنشاء السد العالي المشروع الأكبر للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، شمل تهجير أهل النوبة المنطقة ما بين قرية “دابود” وقرية “حنضل” ليشمل التهجير 45 قرية الواقعة بين القريتين المذكورتين، واستمرت فترة التهجير من 18 أكتوبر 1963 حتي 30 يونيو 1964، وجاء المشروع بأكبر مأساة لأهالي النوبة، حيث تم تهجيرهم لمناطق صحراوية خالية من الخدمات وسبل العيش، مما أدي لوفاة عدد كبير من كبار السن والأطفال حديثي الولادة.
تم تعويض المهجرين من أهالي النوبة بتعويضات مجحفة، كانت المبالغ التي تم صرفها كتعويضات أقل بكثير عن القيمة الحقيقية لممتلكات النوبيين المهجرين، فضلا عن أنه لم يتم صرفها بالكامل. تم تقدير النخلة بحوالي 180 قرشًا، والمنزل بحوالي 50 جنيهًا، وفدان الأرض بـ 150جنيهًا، والساقية أو البئر قدرت بحوالي بحوالي 20 جنيهًا.
لا يمكن نسيان التضحيات النوبية بالتهجير حتي يتم بناء السد العالي الذي قُدّر أنه سيعود بالفوائد الجمّة للدولة المصرية، خاصة مع تأكيد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن التهجير هو وضع مؤقت حتي إتمام السد العالي واستقرار بحيرة ناصر، تتلوه العودة مرة أخري لديارهم وديار أجدادهم. لكن بالرغم من تأكيد جمال عبد الناصر لهم بحق العودة تجاهلت الدولة هذا الأمر لأكثر من خمسين عاما بل تجاهلته تجاهلا تاما. وأخيرا بعد ظهور بارقة الأمل في العودة بوضعها كمادة حاكمة ملزمة التنفيذ بالدستور الحالي الذي أقر بوضوح تام (في المادة 236) حقهم في الرجوع لأراضيهم، يفاجأ النوبيون بصدور قرار جمهوري للمناطق الحدودية (قرار 444) المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 29 نوفمبر 2014 بشأن تحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية، والذي أقره البرلمان الحالي، وبموجبه تم تخصيص مساحات من الأراضي كمناطق عسكرية لا يجوز سكنها، وتضمنت هذه المنطقة العسكرية أراضي نوبية تعود لـ 16 قرية نوبية، وهذه القري تقع من امتداد قرية العلاقي شمالًا إلى أدندان جنوبًا، وهذا يعني إن حق العودة المنصوص عليه في الدستور يتعارض مع هذا القانون، وانه بالرغم من إن الدستور هو ابو جميع القوانين إلا ان قانون المناطق الحدودية العسكرية قد جمده. ثم تأتي الطامة الكبرى بتخصيص باقي أراضي النوبة 110 ألف فدان للعرض علي المستصمرين والتي تشمل أراضي توشكي وقرية نفرقندي، مما يؤجج ثورة الغضب في صدور النوبيين الذين يشعرون بالغبن مرة تلو مرة، ففي كل مرة تتعارض إرادتهم مع إرادة الدولة دائما وأبدا تنتصر إرادة الدولة مما يشعرهم بنقص مواطنتهم وأنهم مجرد كتلة بشرية انتزعت من موطنها ولم ولن بسمح لها بالعودة رغم الوعود ونص الدستور.
في سبتمبر 2016 انعقد مؤتمر في قرية ” دابود ” دعت إليه عدد من المنظمات النوبية بعنوان (العودة حق)، وخرج المشاركون في المؤتمر بتوصيات من أهمها أن يصدر قرارًا جمهوريا بتشكيل هيئة عليا لتوطين وإعمار النوبة القديمة، بالإضافة إلى تعديل القرار رقم 444 بحيث لا يتعارض مع حق العودة أو استثناء النوبيين من عدم السكن في تلك المناطق العسكرية المحددة في القرار، وأمهل النشطاء الحكومة 3 أشهر لتمكين النوبيين من حق العودة قبل اتخاذ ما وصفوه بـ ” الإجراءات اللازمة"
وفي 12 نوفمبر 2016 تجمع مئات سيارات النوبيين منظمين مسيرة للرجوع لأرضهم ارض الأجداد، 110 ألف فدان التى تنوى الدولة لبيعها لمستثمرين اجانب وأعلنت عنه الحكومة في توشكى، إلا أن الشرطة منعتهم من الوصول لمقر المشروع، مما دفع منظموا المسيرة وقتها لعقد اجتماع لبحث سبل التصعيد، وتم اتخاذ قرار في الاجتماع ببدء اعتصام في 19 نوفمبر. وفي سياق متصل، عمل عدد من المجموعات النوبية المستقلة ومنظمات المجتمع المدني على جمع وثائق وأدلة تاريخية لتحريك دعوى أمام اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، التابعة للاتحاد الأفريقي، لاختصام الحكومة المصرية والقرارين الرئاسيين. وستطالب الدعوى بعودة النوبيين إلى الـ44 قرية التي تم تهجيرهم منها خلال حقبة الستينيات مع بناء السد العالي، وفقًا للضمانات التي تضمنها دستور 2014.
كنت أتمني أن تقدر الدولة مدي تضحيات النوبيين وأن تنظر بعين العدل وتثمن ما دفعه النوبيون من ثمن غالي بتركهم موطنهم وضياع حضارتهم التليدة كي يتحقق لكافة المصريين الرخاء وبقاء أراضيهم الزراعية دون التعرض للغرق أو نقص المياه، وألا يكون رد الجميل طرح ما تبقي من أراضي أجدادهم سواء للمصريين أو الأجانب وهم أولي بها.