الأقباط متحدون - الشنطة بينى وبينك
  • ٢٣:٢٧
  • الاثنين , ٢٦ ديسمبر ٢٠١٦
English version

الشنطة بينى وبينك

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٠٤: ٠٨ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٦ ديسمبر ٢٠١٦

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

أول درس نتعلّمه فى أول امتحان ندخله فى أول عام دراسى بالمدرسة الابتدائية المصرية، هو أن تضع «الحقيبةَ المدرسية» بينك وبين من يجلس إلى جوارك فوق طاولة الدرس «البنش».. لماذا؟ لكيلا يكون بوسعه أن ينظر فى ورقة إجابتك وينقل «المعلومة» من ورقتك، تلك التى سهرت ليالى إثرَ ليال حتى «تحفظها» عن ظهر قلب، حتى تحين لحظة «سكبها» فى ورقة الإجابة. صحيحٌ أنك تخرج من الامتحان، وتتدرج فى سنوات الدراسة، وقد «نسيت» تماما تلك «المعلومات»، إلا أن هذا ليس مهمًّا، المهم أنك انتقلت من الصف الثانى إلى الصفّ الثالث فالرابع فالخامس، حتى تتخرج من كليتك، إلى الحياة العامة، محاميًا، أو طبيبًا، أو محاسبًا، معك شهادة من الدولة بأنك أهلٌ لذاك.

دعك من كمّ الكلمات «المُفخّخة» فى صدر المقال مثل: (معلومات- تحفظ- تسكب- تنسى)، فهذه ليست موضوع المقال. لهذا سأمرُّ عليها بمِشرط النقد السريع؛ لأنتقل بعدها إلى «الفخّ النفسي» الأهم والأخطر، موضوع المقال، وعنوانه. ذاك أن «العلم» و«الدراسة»، ليسا معلومةً؛ فالمعلوماتُ كما قال الجاحظ: «مُلقاةٌ على قارعةِ الطريق»، وأصغرُ شريحة موبيل بوسعها أن تحوى جميعَ موسوعات العالم. وليس عليك كدارس أن «تحفظ» المعلومة كما ببغاء. بل أن تدخل المعلومةُ رأسَك لتخرج «فكرة»، وتتحول الفكرةُ إلى «وجهة نظر»، أو «رأى» أو «ابتكار» أو «اختراع». وفى الامتحان ليس عليك «سكب» المعلومة، كما يُسكب الماءُ من كأس، بل أن تُبدى حلا لمعادلة أو رأيًا فى مشكلة، أو فكرة مدهشة لم يسبقك إليها الأوّلون. وحين تتدرج من مستوى تعليمى إلى آخر، يكون أمرًا محزنًا، أن «تنسى» ما احتشد به رأسُك، وروحُك، من رؤىً، من المفترض أن تشكّل شخصيتك وتحدد سلوكك، وتصنع منك إنسانًا ممتازًا، ومواطنًا فعالا؛ يفيد مجتمعه، ويساعد العالمَ، ثم يُثرى الإنسانيةَ جميعها.

تلك الحقيبةُ التى تضعها «حاجزًا» بينك، وبين زميلك، لن تمنعه وحسب من «نقل» المعلومة من كراستك، إنما ستمنعك أنت من التواصل النفسى معه، اليوم وغدًا، وحتى نهاية عمرك. تلك الحقيبة شكّلت بينك وبين «الآخر» حاجزًا نفسيًّا مُستدامًا لن تُسقطه السنواتُ ولا الخبراتُ ولا تراكُم الصداقات. تلك الحقيبةُ علّمتك درسَك الأولَ فى الحياة. «أن نجاحَ الآخر بالناقص من نجاحك». لكى تنجح أنت لابد أن يرسب جارُك. لكى تثرى أنت، لابد أن يفتقر سواك. عند أقدام تلك الحقيبة ينهدم أول حجر فى جدار «العمل الجماعى» الذى لن تتقنه حين تكبُر. تلك محنة التعليم فى المجتمع العربى. لأنه قائمٌ على «الحفظ» و«الترداد»، و«سكب» «المعلومة» فى ورقة الإجابة، من أجل «النجاح» أو «الرسوب». كل الكلمات المقوّسة السابقة لا محلّ لها فى معجم التعليم الغربى. التلميذ فى المجتمعات الراقية لا يحفظ المعلومة، بل يعرفها، لتكون «وسيلة» لا «غاية». وسيلة لبناء المنطق العلمى والفكرى. فإن تكوّن لديك منطقٌ علمى، كان بوسعك أن «تفكر»، فإن فكرت «أبدعت». المعلم الغربى يشجع التلميذ على العمل الجماعى Team Work فيتعلّم الطفل أن نجاحه مرهونٌ بنجاح زميله، فلا محلّ للحقيبة بينهما، لأنه لن يُمتحن فى المعلومة التى يحاول إخفاءها عن زميله. المعلّم يشجع الطفل الغربى على التفكير. لأن الفكرَ أبُ الإبداع. بينما لدينا فى مجتمعاتنا العربية نسخر منك إن فكّرت. فإن تماديت فى غِيّك وأنتج فكرُك «وجهة نظر» مغايرة للسائد، قوضيتَ وسُجنت أو قُتلت. هكذا تتكوّن ثقافة القطيع ونصير جميعًا نسخًا نمطية من بعضنا البعض. جميعنا متشابهون. والمتشابهون لا يبتكرون، بل «يقلّدون». وحين يحتاجون إلى «ابتكار» يُسيّر حياتهم، ينظرون حولهم إلى الدول التى تفكّر، لنستورد منهم ما ابتكروا واخترعوا، فنستورده، ثم نسىء استخدامه. فيخترعون الحاسوبَ لكى يدرسون أحوال المجرّات وعناصر الكيمياء التى تُشفى الأمراض، وهلمّ جرا، فنشتريه نحن لندخل غرف الدردشة التى «تقتل» الوقت وتزيل الضجر. وكأن «الوقت» عدوٌّ نريد قتله، بينما هو أثمنُ ما لدينا. هو أعمارنا، التى إن تبدّدت منها لحظةٌ لا تعود.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع