الأقباط متحدون | المخ البشري والروح الإنساني .. ديناميكية (حركة) الترقي الروحاني
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٢١:١٥ | الأحد ٢٣ يناير ٢٠١١ | ١٥ طوبة ١٧٢٧ ش | العدد ٢٢٨٥ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

المخ البشري والروح الإنساني .. ديناميكية (حركة) الترقي الروحاني

الأحد ٢٣ يناير ٢٠١١ - ٢٦: ١١ ص +03:00 EEST
حجم الخط : - +
 

بقلم: راندا الحمامصي
مرحلة التطور ما بعد الحالة البيولوجية "Metabiological Evolution"
    إن تطور ما بعد الحالة البيولوجية هو في حقيقة الأمر تطورٌ روحاني، وهو ظاهرة هامة جداً تمثّل تطور الوعي عند الإنسان. والوعي هنا يحمل معانٍ عديدة من قبيل الذكاء، إدراك الذات، العقل، وهي أساسية تشير إلى الحقيقة نفسها ما وراء الطبيعة وما فوق الصفات البيولوجية، وهي التي تعبِّر عن نفسها بكل حيوية في ميادين ابتكار الفنون والعلوم، التحلّي بالقيم والفضائل، ظهور الثقافات، وبروز كل ما من شأنه أن يعبّر عن تفرّد الإنسان وتميُّزه. لقد بدأ عدد من العلماء في الأعوام الأخيرة التحدّث عن التطور الثقافي على أنه تطور مميّز وشكل من أشكال التطور البيولوجي والكيميائي. فمثلاً يقول سبيري بأن "ما يسمى بالثلاثة الكبار... الوعي والإرادة الحرة والقيم" – كانت دائماً تلك الشوكة التي تَخِزُ جسد العلم المادي وكان يرفضها تماماً. على أن الصياغة الحديثة للعلم الخاصة بعلاقة العقل بالمخ "تجعل الأحداث المدرَكة عقلياً هي المسبِّبات". ومع ذلك من الجدير بالملاحظة أن العلماء مثل سبيري يعتقدون أن المخ يولِّد ويكوِّن برامجه العقلية الخاصة به. فهؤلاء العلماء لديهم تخوّف مشروع جداً في قبول أي مفهوم يمكن إثباته بطريقة علمية. ومع ذلك هم في غاية الإستعداد للإقرار بأن الأسلوب الآليّ للعلم المادي القائم أصلاً على رؤية نيوتن لآلية العلم  "Newtonian World-Machine perspective" إنْ هو إلا محدود جداً في مداه. فهو عاجز عن إدراك جميع الحقائق، ويعتمد على الدراسة النقدية المُفَصّلة والتحليل. يفتقر إلى القدرة على الجمع بين الأشياء لنراها في صورتها الكاملة، ويرفض قبول بروز الظواهر غير الطبيعية مثل الحياة والوعي. ولذلك فإنه يسعى إلى تعليل تلك الظواهر في إطار القوانين الآلية والبيوكيميائية وخَلْقها في المختبر أو في الحاسوب. في هذا السياق من تلك الخلفية يتّخذ مفهوم التطور الروحاني أهميته الفريدة.
  
  يشير التطور الروحاني إلى تلك العملية التي تَطَوَّر فيها الوعي بصفته حقيقةً روحانية. هذه العملية مشابهة لتطور الحياة على أنها حقيقة بيولوجية وتطوّر الطاقة على أنها حقيقة طبيعية. فبالطريقة نفسها بأن الحياة لها خصائصها الفريدة مثل: النماء والتكاثر والتمثيل الغذائي فإن الوعي له خصائصه الفريدة أيضاً. فالوعي ليس شيئاً مادياً؛ فلا هو بالمُركّب وليس له ارتباط بالزمان والمكان، ومع ذلك، كما نعلم، فإن الوعي لا يتأتّى إلا من سياق المراحل التقدمية للتطور العام(مادياً وجسمياً وروحياً). وبكلمات أخرى فحتى يظهر الوعي فمن الضروري توفّر المادة والحياة معاً.
    كيف بدأ الكون هذا ما نجهله حقاً. وبالطبع لدينا مفاهيم عن "الإنفجار الكوني الهائل" "Big Bang" وما أعقبه. أما أصل الكون فلا يزال سراً غامضاً. هناك تفسيران اثنان لا غير: إما أن يكون قد أتى من العدم أو أنه تشكّل. فالأول يتضح أنه غير علمي لأن العلم يخبرنا بأنه لا يأتي من العدم إلا العدم. أما الثاني فيتطلب منا تبنّي مفهوماً مغايراً للنظرة المادية للعلم. وعلى الأقل، في المستوى النظري، اعتبار أن هناك حقيقة روحانية وليست مادية هي السبب الأساس في وجود هذا الكون كما نعرفه.
  
  تقول نظرية التطور الروحاني بأن العقل الأول والوعي الأزلي (الله) الذي كان من الأول الذي لا أول له قد أوجد الكون بخصائصه الفريدة ومن ضمنها قانون التطور. إن نظرية التطور الروحاني تقول بأن العقل الأول والوعي الأزلي منذ الأزل إلى أبد الآبدين سيبقى موصولاً بعملية الخلق الأزلية والتطور الذي لا ينقطع. وبكلمات أخرى؛ ما نراه يحدث فجأة وما نشاهده من حُقبٍ ليست في الحسبان ما هو إلا نتيجة لمراحل التطور الثلاثة المميزة وبمشيئة إرادة العقل الأول. وعليه، فإن ظهور الحياة، وهي طفرة كبيرة من التطور المادي إلى التطور البيولوجي (الأَحيائي)، يُعزى إلى نبض العقل الأول. وحتى نُصيغ الموضوع بلغة روحانية، فإن الله سبحانه وتعالى قد نفث روح الحياة في المادة (التي لا حياة فيها) فقال: "كن" فكان كل شيء.
   
قد يجادل أحدنا بأنها فكرة غير طبيعية ولا يمكن حدوثها. ولكن ألسنا نحن البشر قائمون بالعمل نفسه في عالمنا؟ فكيف وُجدت الطائرة؟ فعقل الإنسان قال: "كوني" فكانت في النهاية. أليس الشيء نفسه يحصل فيما نصنع ونبني؟ ألا نحتاج أولاً إلى فكرة ثم وعي وإدراك ثم إرادة؟ هل يمكن لشيء ما أن يوجَد دون إرادتنا الواعية؟
    إن فعل الخلق والتشكيل يختلف عن عملية التطور، فالخلق بحاجة إلى إرادة واعية، أما التطور فإنه يسير طبقاً لقواعد موضوعة. ولذلك ليس بعيداً إدراك أن دَفَقات خلق هذا الكون المادي ثم ظهور الحياة فيه نابع كله من العقل الأول الذي يسمو بطبيعته فوق قوانين الطبيعة والأحياء.
    ولتوسيع مدى الرؤية في هذه النقطة، لا بد لنا من تطبيق المبدأ ذاته على ظهور الوعي. فلنعدْ ثانية إلى العلاقة بين التطور المادي والأحيائي (البيولوجي). من الواضح أن الحياة لا يمكن إيجادها دون وجود شيء يكوِّن الجسم اللازم لتجسيد الحياة فيه. فمن الناحية الأساسية هناك عنصران يجب توفُّرهما لكل كائن حي: مكوِّنات مادية _ خاصةً وجود الكربون )، ثم المكوِّنات المُشفَّرة داخل الجينات وكلاهما لازم للحياة.

    إن موضوع الشفرة الجينية له خاصيته في الإهتمام. يبدو لنا أن المادة والوعي يلتقيان معاً في هذا المستوى من المنظور ويجعلان الحياة ممكنة. فهذه العلاقة المعقدة هي التي تفرض على الكيميائي سيريل بونامبيروما أن يعلن بقوة: "في كل شيء نبض حياة محدد". ذلك لأن في كل شيء قدراً معيّناً من الوعي وإن يكن وعياً لا يدرِك نفسه خلال سلسلة حلقات التطور إلى أن يصل إلى مرتبة الإنسان. ففي طريق مسيرتنا من مستوى الجُسيمات دون الذرية والذرات إلى مستوى الكواكب نشاهد أمرين: الهدف والأمر بالإيجاد. فالإلكترونات (الشحنات السالبة) تدور حول النيوترونات (الشحنات المتعادلة)، والبلورات تتشكل بترتيب معين، والنجوم تسبح بغاية التنظيم بحيث لو حدث أي خلل في أي من هذه الأنظمة لكانت عواقب لا يمكن تصورها. فالجميع يتبع أنظمة محددة موضوعة. وبالمثل يمكننا القول بأن هناك شكلاً بدائياً للوعي (الهدف والنظام المحدد)، ومع ذلك غير واعٍ بوجوده تماماً إلا أنه يمكن أن يُلاحَظ فقط لأننا نتمتع بالوعي الكافي.
  
  هذا ما ينسحب على ميدان التطور البيولوجي بفارق بسيط هو أن الوعي هنا أكثر تطوراً وتعقيداً مع أنه لا يدرك نفسه. فلا نشاهد الهدف الحقيقي ومثله عملية الوعي إلا في مستوى الكائنات الحية. فمثلاً نرى أوراق الشجر تتوجه نحو الشمس، والحيوانات تشعر بالألم، حتى أن بعض الحيوانات الراقية حائزة على نوعٍ معين من الذكاء. ومع ذلك فإن هذه الأنماط من الوعي لا تمنح أصحابها إدراكاً بوجودها. ففيما يتعلق بذكاء الحيوان نقرأ في ما قاله بريبرام ما يستحق الإهتمام: "أجد نفسي مدفوعاً إلى القول بأن المخلوقات البشرية مختلفون عمّا دونهم من الحيوانات الرئيسة تماماً كاختلاف الثدييات عن الحيوانات الفقارية "vertebrates". فلسنا متفردين في امتلاكنا الذكاء، إلا أن ذكاءنا جدُّ مختلف."
    لقد أظهر التطور البيولوجي، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن هناك علاقة مباشرة بين حجم الجهاز العصبي المركزي "central nervous system" وتعقيد تركيبه بشكل عام والمخ بشكل خاص من جهة ودرجة الذكاء عند كل كائن حي من جهة أخرى. إنها ملاحظة تحمل الحقيقة إلى أن نصل بها إلى الإنسان الذي نجد فيه فجأة ظهور مخّه الفريد المتميّز. وكما أُشير سابقاً فقد ظهر المخ البشري قبل ثلاثة ملايين سنة تقريباً، لذا يمكننا اعتبار هذا التاريخ بداية التطور الروحاني. فهي فترة زمنية احتاجها الإنسان الشبيه بالحيوان إلى أن بدأ بالتدريج يدرك "نفسه"، وأنه يختلف عن باقي المخلوقات، فطوّر نوعاً من اللغة وبدأ يتصل بمثله من المخلوقات الذين يملكون الوعي بأنهم يدركون أنفسهم.
    وفي سبيل فهمٍ أكبر لطبيعة التطور الروحاني، من الجدير أن نعرّف الوعي (الإدراك) باختصار ونراجع بعض الأفكار التي وردت بخصوصه. لقد لاحظ بيبرام أن:
هناك على الأقل أوضاعاً ثلاثة تُستعمل فيها كلمة "وعي". الأولى لنا فيها حالات من الوعي مثل: النوم، اليقظة، والغيبوبة ويتساوى في ذلك الإنسان والحيوان. ثم نستعملها في التعبير عن حالات من الوعي أو اللاوعي؛ فعندما تقول أن جون في حالة من الضيق النفسي فإنك تشير بذلك إلى "مشاكل آتية من اللاوعي"، أما إذا صدر صوت هسهسة عن القطة فلا تستطيع القول أن صراعاً داخلياً سبب لها هذا التصرف. وعندما نتكلم عن الوعي أو اللاوعي عند الإنسان فإننا نتكلم عن درجات الوعي الذاتي (الإدراك). وخلاصة القول فإنه بالإضافة إلى حالة الوعي بالشيء والعمليات التي تعرّف لنا الإدراك، نكون قد توصلنا إلى ما يشكّل الوعي والإدراك – وهو ما نتوجه له باهتمامنا.

إن هذا التعريف للوعي (الإدراك) يساعدنا كثيراً لأنه يرينا مزالق الوقوع في استعمال كلمة يمكن أن تعني أشياء كثيرة لأناس عديدين في حالات مختلفة. ففي سياق السيكولوجية الروحانية نشير إلى القوى الكامنة في عقل الإنسان، إذ هو حائز على طاقات هائلة. ولهذا نقرأ في قول سبيري "إن العقل ليس بمقدوره أن يمحّص الماضي فحسب، بل ويستشرف المستقبل فيحدد الخيارات. فطاقة العقل وفعالياته تسمو فوق الزمان والمكان الخاصَّيْن بفسيولوجية المخ."
    إن العلاقة بين العقل والمخ لا تنقطع بشأنها اهتمامات العلماء. فبعد سلسلة من خبرات المخ ذي الفصّيْن وتجاربه لاحظ سبيري أنه "طالما أن كل واحد من فصّي المخ قادر على تغذية جهازه الواعي الإرادي الخاص به... فالسؤال هنا لماذا إذن، في الوضع الطبيعي، لا نرى أنفسنا زوجاً من شخصين: يسار وآخر يمين بدل ما نشعر به بأننا فرد واحد يتحد فيه العقل والنفس؟" ويستطرد سبيري في قوله بأن ذلك سببه أن الوعي والإدراك "وجود انبثاقي أسمى من وعينا بالفصّيْن الأيمن والأيسر." فهذه الملاحظة والإستنتاج مطابق لمفهوم السيكولوجية الروحانية للنفس البشرية. فنرى أنفسنا وحدة واحدة بسبب طبيعة روحنا وطاقاتها الفكرية في المعرفة والمحبة والإرادة.
 
   في الأحوال الطبيعية يتأثر مخ الإنسان بعقله إلى حدّ كبير، ولذلك عندما نطوّر طاقات عقلنا ونوسّع وعينا وإدراكنا لأنفسنا نستطيع القيام بأعمال متعددة. وأكثرها وضوحاً ما نطوره في حياتنا من درجة أعلى في تكامل شخصيتنا وكمالها. إلى جانب أننا بأفكارنا وأفعالنا نشارك في عملية التطور الروحاني الجماعي للبشرية. والخلاصة أن هناك دلائل علمية تسترعي الإهتمام بأن التوسع في الوعي وتأثُّر أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا بالرؤى العامة والقيم الأخلاقية
له تلك التأثيرات المباشرة على أداء المخ وحتى على التركيب التشريحي والفسيولوجي له.

   إنها وقائع تؤكد تلك النظرية الرئيسة التي قُدمت في هذا القسم بأن التطور الإنساني هو عملية تشمل تطور الإنسان مادياً وجسمياً وروحياً
"biopsychospiritual"، وأن الصحة الجسمانية والإستقرار العاطفي والإستنارة الروحية كلها لاعب رئيس في التطور السليم للجنس البشري. ومن أجل هذا يجدر بنا إعادة تقييم دور الدين في حياة الإنسان. وأعني بالدين هنا ذلك المنهج الذي يقدم لنا المبادئ الروحانية والأخلاقية والسلوكية دائمة التقدم التي تلبي حاجات الإنسانية وهي تدخل عهدها المجيد في البلوغ الجماعي.

    وكما ذكرنا سابقاً، فإن الدين والعلم هما وجها المعرفة الإنسانية. فأحدهما دون الآخر غير كفؤ للإستجابة لمتطلبات التطور الإنساني أو تقديم الإرشاد المناسب له ورسم معالم سليمة لحضارة منيرة يسودها السلام. وعليه، فإنه من الضروري بذل اهتمام خاص بتلك المواضيع التي تتيح لنا تكامل مبادئ العلوم والمبادئ الروحانية في تقارُبٍ عملي سهل من أجل تطوير نمط لحياة روحانية متكاملة.

في الفصل الأخير من هذا الكتاب سأُبرز تلك العمليات المطلوبة لنا لتحقيق الوحدة في داخلنا ومع الآخرين. وسأبيّن أنه في الوقت الذي تتّحد فيه طاقاتنا في المعرفة والمحبة والإرادة بفضل المبادئ الروحانية في الحقيقة والإتحاد والخدمة، سوف نُحرز مستوى رفيعاً جداً من التطور الذاتي وتكامل النفس من جهة، وتناغم علاقاتنا الشخصية ومدّ جسور التعاون مع الآخرين من جهة أخرى. كما سأركّز على القيم والعيوب المتوارثة في النظم العلاجية. (من كتاب-سيكولوجية الروحانية)




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :